الفجوات الاقتصادية.. تحدي ترامب الأكبر
(البيان)-22/01/2025
محمد العريان*
استفاد الرئيس دونالد ترامب سياسياً خلال رحلته لاستعادة البيت الأبيض من التباين في النتائج الاقتصادية المحلية.
وإذا تركت القوى التي تقف وراء هذا، وأولئك الذين يقودون التباعد بين أداء الاقتصاد الكلي للولايات المتحدة ونظرائها الدوليين، فإنها ستصبح أقوى، وهذا يهدد بحدوث انهيارات اقتصادية ومالية واجتماعية في السنوات المقبلة.
وحل هذه التحديات بشكل منظم ومتسق قد يكون له أثر كبير في كيفية تذكر الفترة الثانية لرئاسة ترامب.
لقد حافظت الولايات المتحدة على معدلات نمو وتوظيف تحسد عليها في السنوات الأخيرة، لكن هذا «الاستثناء الاقتصادي» لم يكن محل تقدير واسع من قبل الناخبين الأمريكيين، فقد رأى هؤلاء أن مكاسب النمو تراكمت في شريحة محدودة من المجتمع، مع قلة الاهتمام بمعاناة الفئات الأكثر ضعفاً، التي شعر الكثير منهم أن صوتهم غير مسموع.
هذا الوضع قوض ثقة الأسر الأمريكية في قدرة الديمقراطيين على إدارة الاقتصاد، ما يتناقض بشدة مع المشاعر الإيجابية تجاه الأداء الاقتصادي خلال فترة ترامب الأولى. كما أن الاقتصاد الذي يشبه حرف «K» له نتائج متباينة على الأكثر ثراء والأكثر فقراً، يعني بالتالي أن الرئيس سيرث تحديات جسيمة تتعلق بالأسر الأقل دخلاً.
وانعدام الأمن المالي، الذي فاقمه تبخر المدخرات التي تم جمعها خلال الجائحة، وارتفاع الديون، واستنفاد حدود البطاقات الائتمانية، سيستغرق وقتاً للتغلب عليه بمعدلات النمو والأجور والتوظيف الحالية. وإذا تفاقم الوضع فإنه لن يهدد النسيج الاجتماعي فقط، بل سيهدد الاستهلاك، أهم محرك للنمو الأمريكي في وقت تتمتع فيه الولايات المتحدة بأفضل وضع لتحقيق طفرة في الإنتاجية ومعدلات النمو.
ولم يقتصر التباين على الشأن المحلي فقط، بالنظر إلى مدى تفوق الاقتصادي الأمريكي مقارنة مع الاقتصادات العالمية الأخرى، فقد كشف تقرير حديث لبنك غولدمان ساكس أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الاسمي لمنطقة اليورو منذ الربع الأخير من 2019، أي قبل الجائحة، لم يتجاوز 39% من النمو الأمريكي.
وكان الوضع أسوأ في المملكة المتحدة التي سجلت 10% فقط، بينما حققت الصين، أكبر الاقتصادات الناشئة، 55%. وعزز هذا التفوق الأمريكي قرار صندوق النقد الدولي برفع توقعات النمو الأمريكي لعام 2025 بمقدار 0.5 نقطة مئوية إلى 2.7%، في حين خفض توقعاته لمعدلات النمو الأوروبي.
ويشهد الاقتصاد الأمريكي نمواً يفوق التوقعات، ما أدى إلى تغيرات مهمة في الأسواق المالية العالمية، وخلق تحديات إضافية للدول النامية والاقتصادات الضعيفة، فقد شهدت السندات الأمريكية ارتفاعاً كبيراً في عوائدها، ويرجع ذلك إلى تضافر ثلاثة عوامل: معدلات نمو تفوق التوقعات، واستمرار معدلات التضخم المرتفعة، وتزايد قلق المستثمرين بشأن الديون والعجز المالي.
نتيجة لذلك، اضطرت دول أخرى لرفع عوائد سنداتها لتظل قادرة على جذب المستثمرين الذين يجدون في السندات الأمريكية خياراً جذاباً. وقد كان التأثير السلبي أشد وطأة في الدول التي تعاني أصلاً مشكلات اقتصادية هيكلية وظروفاً سوقية صعبة.
والمملكة المتحدة خير مثال على ذلك، فقد ارتفعت عوائد سندات الحكومة البريطانية لأجل 10 سنوات بمعدل أسرع من نظيرتها الأمريكية ووصلت لمستويات أعلى، كما تراجعت قيمة الجنيه الإسترليني بشكل ملحوظ.
وأدت رياح الركود التضخمي إلى تفاقم الوضع الاقتصادي الصعب أصلاً، مع تقلص قدرة المناورة في السياسات المالية والنقدية. وتسير التداعيات في منطقة اليورو بشكل مشابه وإن كانت أقل حدة. وينطبق الأمر نفسه على الأسواق الناشئة، خاصة الصين، فقد لجأت إلى خفض قيمة عملاتها والتركيز بشكل أكبر على التصدير لتعويض ضعف الاستهلاك المحلي.
ويشكل اتساع الفجوة الاقتصادية بين الولايات المتحدة وبقية العالم تحدياً إضافياً لإدارة ترامب الجديدة، تماماً كما تفعل الفجوات الداخلية، فكما يقول المثل: يصعب الحفاظ على منزل في حالة جيدة وسط حي يزداد تدهوراً.
وكلما تأخر بقية العالم عن الولايات المتحدة، ارتفعت قيمة الدولار. وبالنظر إلى المشكلات الهيكلية في الصين وأوروبا، فإن هذا لن يسمح بإجراء تعديل عالمي تتقارب فيه الدول ذات النمو البطيء مع الولايات المتحدة.
بدلاً من ذلك، فإنه يعرض أمريكا للخطر، فوفقاً لتورستن سلوك من أبولو، فإن 41% من إيرادات شركات مؤشر S&P 500 تأتي من الخارج، كما أنه يزيد من خطر زيادة الحمائية، نظراً لتأثيرها في القدرة التنافسية الأمريكية.
ورغم أن التباين الاقتصادي كان عاملاً مساعداً في عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إلا أنه يواجه الآن تحدياً مختلفاً؛ كيف يعيد توجيه هذه الظاهرة لحماية الاقتصاد الأمريكي من مخاطرها.
وسيكون على الرئيس أن يضع هذا التحدي نصب عينيه في كل قراراته، بدءاً من السياسة الضريبية حتى تطبيق التعريفات الجمركية، خلال سلسلة الإعلانات المتوقعة عن سياساته في الأسابيع والأشهر المقبلة، فمن دون هذا التركيز، قد تفشل حتى أكثر المبادرات الواعدة وقد تخرج عن مسارها.
*رئيس كلية «كوينز» بجامعة «كامبريدج» ومستشار لمؤسستي «أليانز» و«غراميرسي»