تعريفات ترامب الجمركية تكشف هشاشة استقلالية سويسرا الاقتصادية
(البيان)-13/08/2025
ليس من المعتاد أن تجد سويسرا نفسها في موقع الطرف الأضعف في نزاع تجاري عالمي، والأكثر ندرة من ذلك أن تتعرض لإجراءات عقابية من أحد أكبر شركائها التجاريين، وذلك بعدما قامت الولايات المتحدة بفرض تعريفات جمركية بنسبة 39% على معظم السلع السويسرية، عقب انتهاء مهلة قصيرة.
وتمثل هذه النسبة أكثر من ضعف الرسوم التي فرضتها إدارة ترامب على الاتحاد الأوروبي، وأعلى من تلك المطبقة على المملكة المتحدة أو كندا. وفي الواقع، تعتبر هذه التعريفات الجمركية هي الأعلى المفروضة على أي دولة متقدمة.
وتسود في سويسرا حالياً أجواء من الاتهامات المتبادلة، فيما تفكر الحكومة السويسرية في الخطوة التالية، مع تعهد برن في الوقت نفسه بمواصلة الحوار مع واشنطن.
لم تكن المفاجأة في فرض الولايات المتحدة للتعريفات الجمركية، حيث لم ينج سوى عدد ضئيل من الشركاء التجاريين الأجانب من براثن الرسوم الجمركية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ولطالما كانت سويسرا هدفاً للرئيس الأمريكي، إذ حققت فائضاً تجارياً بقيمة 48.5 مليار فرنك (ما يعادل 60 مليار دولار أمريكي) مع الولايات المتحدة في عام 2024 واستوردت في المقابل كمية محدودة من السلع الأمريكية.
المشكلة أن الكثيرين في بيرن لم يتوقعوا أن تنتهي الأمور إلى ما آلت إليه، بفرض تعريفات جمركية ثابتة قدرها 39% على جميع المنتجات السويسرية تقريباً مع عدد ضئيل من الاستثناءات.
وفي ضوء هذه الاستثناءات، خصوصاً الذهب والمستحضرات الدوائية، فيما ستتأثر صادرات مهمة بصورة مباشرة جراء هذه التعريفات، مثل الساعات، والماكينات، والأدوات الصناعية، والشوكولاتة.
كذلك، لم تكن هذه الإعفاءات بعيدة عن دائرة الغموض، فقد كان من المفترض أن يكون الذهب واحداً من مثل هذه الصادرات المستثناة من التعريفات، لكن «فاينانشال تايمز» نشرت الأسبوع الماضي خبراً عن فرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية على واردات سبائك الذهب زنة 1 كيلوغرام، في خطوة جاءت بمثابة ضربة جديدة لسويسرا، وهي أكبر مركز لتكرير الذهب عالمياً.
وهناك مشكلة أخرى في هذه التدابير تتمثل في أن سويسرا تقف وحيدة في ذلك، فقد تفاوض الاتحاد الأوروبي وانتهى به الحال إلى تعريفات جمركية قدرها 15%. كما تمكنت المملكة المتحدة من الاتفاق مع الإدارة الأمريكية على رسوم بمقدار 10%.
وحتى تايوان، شديدة الاعتماد على التجارة مع الولايات المتحدة ورغم هشاشتها الدبلوماسية، إلا أنها حصلت على حد أقصى للتعريفات الجمركية قدره 20% مع تطبيق تدريجي للإعفاءات. إذن، ما السبب وراء المعاملة المتفردة التي تحصل عليها سويسرا؟
صحيح أن سويسرا حققت فائضاً تجارياً كبيراً مع الولايات المتحدة في العام الماضي، لكن البلاد تخلت فعلياً عن كل التعريفات الجمركية الصناعية اعتباراً من يناير 2024.
وجاءت غالبية الفائض التجاري الأخير الذي حققته البلاد من الذهب والمستحضرات الدوائية، ويعود اختلال التوازن هذا إلى حد كبير إلى عمليات المراكمة في أوائل العام الجاري.
ويرى بعض المسؤولين في بيرن أن السبب في كل هذا ليس ما فعلته سويسرا، وإنما ما لا يمكنها فعله.
ويقول هانز- بيتر بورتمان، المسؤول التنفيذي المصرفي السويسري والسياسي بمجلس الشيوخ: «تتمتع سويسرا بسمعة الوفاء بالتزاماتها، لكن ذلك يمكن أن يعتبر ضعفاً في عالم يكافئ الطموح، خصوصاً عندما تواجه شخصاً مثل دونالد ترامب»، كما أن هناك سمات هيكلية تعيق الدبلوماسية السويسرية، وهي وجود مجلس فيدرالي مكون من 7 أعضاء وذي رئاسة دورية، وآليات ديمقراطية مباشرة بإمكانها فرض استفتاءات على أمور مهمة، علاوة على ترسخ الحيادية التقليدية للبلاد والتي تحد من نفوذها الجيوسياسي.
وتابع: «لا يمكن، مثلاً، للرئيس السويسري أن يعرض بصورة أحادية ضخ استثمارات بقيمة 30 مليار دولار، أو تسهيل الوصول إلى القطاع الزراعي، دون المخاطرة بردود فعل محلية سلبية أو طرح المسألة للتصويت»، موضحاً: «لا يمكن للحكومة أن تتعهد باستثمارات من جانب القطاع الخاص بالطريقة ذاتها التي تفعلها دول أخرى».
تعد الخيارات محدودة وحساسة من الجانب السياسي، حيث يمكن، مثلاً، لسويسرا أن تقترح استثمارات مباشرة في المناطق الزراعية بالولايات المتحدة في مقابل تخفيف التعريفات الجمركية، لكن ليست هناك أي آلية لدى الحكومة تمكنها من التعهد برؤوس أموال خاصة بالنيابة عن الشركات.
وكانت هناك أيضاً اقتراحات بزيادة مشتريات الغاز الطبيعي الأمريكي المسال، لكن سويسرا تفتقر إلى بنية تحتية للاستيراد، كما أنها تستهلك الغاز بكميات هامشية. لذا، سيكون أي اتفاق من هذا النوع رمزياً إلى حد كبير.
في المقابل، قد تكون المشتريات الدفاعية أداة ضغط أكثر منطقية، فالبلاد تشتري بالفعل طائرات إف-35 من الولايات المتحدة، ويمكن أن تتضمن المفاوضات المستقبلية إما توسيعاً لهذا الطلب أو إلغائه. وقد اقترح سياسيون سويسريون غاضبون بالفعل إلغاء الطلب الذي تزيد قيمته على 9 مليارات دولار.
وتعد المنتجات الزراعية خياراً آخر، لكن من المؤكد تقريباً أن هذا الخيار سيتطلب استفتاءً ومعارضة قوية متوقعة من جانب المزارعين.
وبالانتقال للحديث عن الذهب، فإن سويسرا تقوم بمعالجة نحو ثلثي الإمدادات المكررة من المعدن النفيس.
وقد اقترح بعض المشرعين استغلال هذا الأمر لفرض تعريفات جمركية تفضيلية بناءً على معايير بيئية أو وفق مصدر الذهب، واقترحوا أيضاً استهداف المصافي الأجنبية التي تعمل في البلاد برسوم جديدة خاصة، لكن المصرف المركزي السويسري حذر بقوة من أن بيانات تجارة الذهب، والتي تعد مالية إلى حد كبير في طبيعتها، تشوه المقاييس التجارية الحقيقية.
ومن شأن أي خطوة في هذا الصدد أن تكون معقدة من الجانب الفني وأن تكون محفوفة بمخاطر سياسية.
وثمة فكرة أخرى غير تقليدية، وهي استخدام «الفيفا»، فقد اقترح رولاند رينو بوتشل، النائب في المجلس الوطني السويسري عن حزب الشعب، اعتبار جياني إنفانتينو، رئيس «الفيفا» سويسري المولد والمقرب من ترامب، جسراً دبلوماسياً.
وكان إنفانتينو من بين الذين حضروا حفل تنصيب ترامب رئيساً للولايات المتحدة، وظهر صحبته في نهائي كأس العالم للأندية بالشهر الماضي. حتى أن البعض اقترحوا نقل مقر «الفيفا» من زيوريخ إلى ميامي ضمن عرض للقوة الناعمة.
كذلك تمارس شركات سويسرية، مثل «روش» و«بارتنرز غروب»، ضغوطها في واشنطن. لكن يظل من غير الواضح ما إذا كانت هذه القنوات الخاصة يمكن أن تفلح حيث أخفقت المفاوضات الحكومية.
لقد أسفر هذا الوضع الصعب عن نقاش أوسع نطاقاً وكان علنياً على غير العادة، حول حدود الاستقلالية الاقتصادية التي تفخر بها سويسرا.
وتبدو سويسرا في وضع غير مواتٍ في هذا العصر للثنائيات العدوانية، وهي التي لطالما كان يشاد بها لكونها ليست من بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، ولإبقائها على سيادتها التامة على القواعد التنظيمية، والزراعة، والهجرة، والسياسة الخارجية.
إن سويسرا مضطرة إلى مجابهة هذا كله وحيدة، في ضوء عدم اشتراكها في اتحاد جمركي، وفي غياب اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، وفي ظل حصولها على دعم محدود على مستوى التكتلات.
ويتساءل بعض المسؤولين ومجموعات الضغط عما إذا كان هذا الوضع يمكن أن يفضي إلى تقارب أكبر مع الاتحاد الأوروبي لحماية أفضل في المستقبل.
في كل الأحوال، تواجه البلاد خيارات صعبة، فإما أن تقدم تنازلات ذات تداعيات سياسية، أو تحاول التوصل إلى حل وسط رمزي، أو أن تستوعب التعريفات الجمركية المفروضة عليها وتتكيف مع الأمر، أو ربما عليها الانتظار حتى تنتهي ولاية ترامب.
لكن السؤال الحقيقي ربما يكون: هل تحول استقلال البلاد الذي لطالما احتفت به، وسيادتها التنظيمية، وحيادها، وانضباطها السياسي إلى أعباء تثقل كاهلها في اقتصاد اليوم الجيوسياسي؟