حاكمية مصرف لبنان في مفترق طرق.. مهام صعبة وسط تغيرات متسارعة!
(العربية)-11/03/2025
يترقب لبنان تعيين حاكم أصيل للمصرف المركزي، حيث يتولى حاليًّا الدكتور وسيم منصوري النائب الأول مهام حاكم المصرف المركزي بالإنابة وفقًا لقانون النقد والتسليف.
“لن يتمّ التوقيع على أيّ صرف لتمويل الحكومة إطلاقًا خارج قناعاتي وخارج الإطار القانوني لذلك”، بهذه العبارة افتتح نائب حاكم مصرف لبنان الأول وسيم منصوري مهامه حاكمًا للمصرف المركزي بالإنابة، في الأول من أغسطس 2023، بإصراره على فصل المالية العامة للدولة اللبنانية عن حسابات المصرف المركزي.
يعتبر المراقبون أن منصوري بالأساس بدأ عهده بمواجهة مع السلطة المتأصلة على مر عقود مضت، بالإنفاق من أموال المصرف المركزي لتمويل عجوزاتها، إما من خلال الاقتراض أو من خلال توفير النقد عبر طبع العملة الوطنية دون أي تغطية عملية لأبواب الإنفاق هذه، وطبعًا معظم الأموال التي أودعت في المصرف المركزي هي أموال المودعين، التي بقي منها عندما تولى منصوري مهامه قرابة 8.5 مليار دولار من التوظيفات الإلزامية.
تم تنظيم الحساب 36 الخاص بالدولة اللبنانية لدى المصرف المركزي، وهو ما مكن الدولة من خلق نوع من التوازن بين نفقاتها وإيراداتها، فلأول مرة منذ 50 عامًا أصبح هناك فائض في موازنة الدولة موجود لدى مصرف لبنان.
إلغاء تعددية سعر الصرف، حيث كان في لبنان ثلاثة أسعار للصرف بين سعر منصة صيرفة، وسعر السحوبات من المصارف، وسعر صرف الدولار في السوق الموازية.
تعددية سعر الصرف كانت بابًا للمضاربة على النقد الوطني وضرب القدرة الشرائية للمواطنين وتذويب ودائعهم، أما اليوم فيستقر سعر الصرف عند 89.5 ألف ليرة لبنانية، وهي عملية تتطلب مجهودًا وحالة من التواصل الدائم مع المعنيين لمنع أيّ مضاربة على الليرة، خاصةً وأن البلاد عانت على مدى أكثر من عام من حرب إسناد، تلتها حرب إسرائيلية شاملة على مدى 66 يومًا، ثم انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، وكلها أحداث كان من شأنها أن تخلق أرضية كي يعود المضاربون لنشاطهم من جديد، لولا أن الأمور مضبوطة بآلية محكمة تقضي بالتنسيق بين المصارف والصرافين والشركات المفوضة بجمع الليرة والدولار، بالتعاون مع الأجهزة الأمنية لمنع أي عملية خرق أو لعب بسعر الصرف.
ويجب الإشارة إلى أن المصرف المركزي اعتمد سياسة ضبط الكتلة النقدية للحفاظ على الاستقرار النقدي، حيث توقف عن طلب الدولار واكتفى ببيع الليرة اللبنانية عبر المصارف حصرًا، بآلية تلتزم أعلى معايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وقد تمكن المصرف المركزي من رفع احتياطاته إلى أكثر من 10.5 مليار دولار.
وتمكن منصوري، من خلال زيارات مكوكية لدول القرار، لا سيما عواصم المصارف المراسلة التي تشكل رئة يتنفس منها القطاع المصرفي في لبنان، من تحييد القطاع المصرفي في لبنان عن أي مفاعيل لإدراج لبنان على اللائحةالرمادية الصادرة عن “فاتف”، حيث صُنف لبنان بأنه دولة تعاني قصورًا بالإجراءات المتبعة لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
فك العزلة المالية عن لبنان
هذه الخطوة تحتسب لمنصوري، إذ إنه تمكن من فك العزلة المالية عن لبنان جراء التهم التي وجهت لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة بتبييض الأموال، إضافة إلى أزمة القطاع المصرفي التي أتت على أموال المودعين، وتجنيب المصارف أتى طبعًا بعد أن ألزم المصرف المركزي المصارف بالعمل بالتوصيات الصادرة عن “فاتف”، فعمل ضمن الصلاحيات الممنوحة له بموجب أحكام القانون باتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة تفعيل وسائل الدفع الإلكتروني.
فضلًا عن إصدار مجموعة تعاميم لها علاقة بمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ومن هذه التعاميم مثلًا التعميم الوسيط رقم 692، حيث تنشأ بموجبه مصلحتان على الأقل ضمن وحدة التحقق، للإشراف على كل من المركز الرئيسي للمصرف وعلى فروعه، كما تعمل المصلحتان على التأكد من تطبيق جميع معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومكافحة الفساد.
وألغى منصوري جميع التعاميم التي كانت تلزم المودعين بسحب ودائعهم الدولارية بالليرة اللبنانية، ما تسبب بذوبان أموالهم، فأصبحت السحوبات بالدولار الأميركي تطبيقًا للتعميمين الأساسيين 158 و166 مطلع العام 2024.
وقد استفاد من هذه التعاميم ولغاية نهاية عام 2024، أكثر من 431.4 ألف مودع، وبمجموع مبلغ وصل إلى أكثر من 3.6 مليار دولار، ولا يزال العمل جاريًا على توسيع مروحة المستفيدين من التعاميم من المودعين، وقد رفع سقف السحوبات إلى 500 دولار شهريًّا.
ومن المتوقع أن تضخ في السوق المحلية ما يقارب 1.5 مليار دولار خلال العام الجاري.
الخطوات هذه أتت انطلاقًا من اعتبار أن الأموال التي حققها المصرف المركزي نتيجة لسياسته النقدية أو الموجودة بالأساس لديه هي حتمًا أموال للمودعين ويجب أن تعود إليهم.
قواعد الشفافية والحوكمة
أرسى منصوري خلال فترة ولايته القصيرة قواعد متشددة في مجال الحوكمة في كل مفاصل عمل المصرف المركزي، كما أنه اعتمد سياسات وإجراءات تحكم عمل المديريات في المصرف، ما أدى إلى شفافية غير معهودة.
إذن فقد تمكنت الحاكمية برئاسة منصوري من اتخاذ إجراءات أمنت القطاع المالي في لبنان وحصنته، رغم الغياب الكلي لأي خطة إنقاذية شاملة للقطاعمن قبل المرجع الصالح أي الحكومة ومجلس النواب، ومع دخول البلاد عهدًا جديدًا من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، تتجه الأنظار إلى إصدار الخطةالمنتظرة.
وقد عبد منصوري الطريق أمام الحاكم المنتظر تعيينه بإجراءات تهدف إلى ديمومة العمل المصرفي وتحصينه رغم الجو الملتهب بالصراعات السياسيةالداخلية والخارجية.
نهج عدم إقراض الحكومة، والاحتكام إلى قانون النقد والتلسيف والاستقرار في سوق القطع، ووضع أولوية حماية المودعين وتمتين القطاع المالي، ليس بالإرث السهل في ظل المتغيرات السياسية الداخلية التي تحصل، وفي ظل ضبابية إقرار الإصلاحات والتطبيق الكلي للقرار 1701 لتمكين لبنان من استقطاب أموال إعادة الإعمار وجذب الاستثمارات.