كيف استشرف متداولو النفط مسار الصراع في الشرق الأوسط؟
(البيان)-27/06/2025
مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، عقب قصف إيراني استهدف قاعدة أمريكية في قطر مساء الاثنين الماضي، جاءت استجابة الأسواق النفطية سريعة ومفاجئة، إذ اتجه المستثمرون إلى البيع، بدلاً من التحوّط بالشراء.
وفي غضون 7 دقائق فقط من إطلاق الصاروخ الأول، عند الساعة 5:30 مساءً بتوقيت لندن، بدأ سعر خام برنت – المؤشر العالمي لأسعار النفط – بالتراجع. وخلال 20 دقيقة، بلغت الخسائر 3 %. وبحلول الساعة 7:30 مساءً، كانت الأسعار قد انخفضت بنسبة 7.2 %، لتصل إلى 71.48 دولاراً، مسجلة أكبر تراجع يومي منذ قرابة ثلاث سنوات.
وفاجأت سرعة انهيار الأسعار كثيرين في سوق النفط، التي عادةً ما تشهد قفزات حادة عند أدنى مؤشر للتوتر الجيوسياسي. وبينما كان المدنيون يحتمون من الخطر، وتبث القنوات التلفزيونية صوراً للصواريخ تضيء سماء الليل، كان المتداولون قد توصلوا بالفعل .
– وبشكل صحيح – إلى أن هذه الهجمات ستؤدي إلى تخفيف التوترات بين الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران، لا تصعيدها. وكما قال خورخي مونتيبيكي، محلل النفط في مجموعة «أونيكس كابيتال»، في رسالة نصية بُعيد الهجوم: «الأمر برمته مدبر بعناية، نعلم أن القاعدة فارغة. كنت أعلم منذ 18 يونيو أن القاعدة خالية»، مضيفاً: «لقد شاهدنا هذا السيناريو من قبل».
ومنذ اندلاع المواجهات بين إسرائيل وإيران، أكد المتداولون أنهم لازموا منصات التواصل الاجتماعي ومصادر المعلومات المفتوحة لتفسير التطورات.
وصرح أحد المسؤولين التنفيذيين في شركة كبرى لتجارة النفط: «الجميع في القارب ذاته.. كلنا نتابع تغريدات تويتر وحسابات الاستخبارات مفتوحة المصدر، وكل ما يمكننا الوصول إليه لفهم ما يجري».
وقد ركز متداولو النفط بشكل خاص على صور الأقمار الصناعية لقاعدة العديد الجوية في قطر، التي تستضيف 10 آلاف جندي أمريكي، إذ أظهرت تلك الصور أن الولايات المتحدة أخلت القاعدة من طائراتها قبل أيام من غاراتها على المنشآت النووية الإيرانية نهاية الأسبوع الماضي، وقبل رد طهران على تلك الغارات يوم الاثنين.
وقد ساعدت هذه المعلومات الاستخباراتية المتداولين على استخلاص استنتاجين رئيسين: أولاً، أن إطلاق الصواريخ كان رمزياً في المقام الأول، وثانياً، أن إيران، بعد أن أظهرت رداً على الضربات الأمريكية لمنشآتها النووية، من غير المرجح أن تصعد أكثر باستهداف الأصل الأكثر حساسية في المنطقة – البنية التحتية النفطية.
يذكر أن النفط والغاز استمرا بالتدفق دون انقطاع من المنطقة طوال فترة المواجهات، بل إن إيران زادت من صادراتها، وفقاً لشركة «ريستاد» الاستشارية للطاقة، نظراً لعدم قدرتها على تكرير كميات كبيرة من النفط الخام محلياً.
وتعكس هذه المفارقة خاصية أخرى مميزة لسوق النفط: براعة المتداولين في الحفاظ على استمرارية تدفق البراميل خلال الاضطرابات، التي تدفع صناعات أخرى نحو الهرب والتوقف. وقد جاءت ردة فعل الأسواق يوم الاثنين، مشابهة لما حدث قبل أسبوع.
حين ارتفعت أسعار النفط الخام بداية بنسبة وصلت إلى 5.5 في المئة، عقب الغارات الجوية الإسرائيلية على منشآت الغاز ومستودعات الوقود الإيرانية، قبل أن تتبخر هذه المكاسب، مع ظهور مؤشرات على مساعي طهران للانخراط في محادثات سلام.
وتوضح هاتان الحادثتان كيف أن المتداولين، منذ بدء الصراع، باتوا يحصرون تركيزهم على سؤال محوري واحد: هل أصبحت إيران أكثر أم أقل ميلاً لتهديد ناقلات النفط العابرة لمضيق هرمز، ذلك الممر الضيق، الذي يربط دول الخليج المنتجة للنفط بالأسواق العالمية؟.
وقالت أمريتا سين مؤسسة شركة «إنيرجي أسبكتس» المتخصصة في استخبارات السوق: «كان الجميع يركزون على احتمالية استهداف المضيق، وبمجرد أن اتضح أن ذلك لن يحدث، تلاشت علاوة المخاطرة». كما قال مسؤول تنفيذي في شركة لتجارة النفط، إن السنوات الأخيرة أسست نمطاً واضحاً:
القفزات السعرية الناجمة عن التوترات الجيوسياسية، غالباً ما تتلاشى بسرعة، موضحاً: «نحن لسنا أمام وضع مشابه لأزمة أوكرانيا وروسيا، حيث اضطررنا لإعادة توجيه تدفقات التجارة لفترة طويلة، بل أمام سيناريو تسعى فيه السوق لاستغلال أي قفزة سعرية للبيع فوراً».
وأكد خورخي مونتيبيكي هذه الرؤية، موضحاً أن بيع الأسهم عند أي تطور مهم، أضحى ممارسة شائعة، قائلاً: «عندما تقرأ السوق بشكل صحيح، ويكون مركزك في صالحك، فأنت تحقق الأرباح، وترغب في تثبيت المكاسب والبيع».
ورغم توقع السوق لاندلاع الحرب، مع صعود أسعار النفط قبيل الهجوم الإسرائيلي الأول، فإن الظروف العامة جعلت المتداولين يترددون في المراهنة بقوة على ارتفاع الأسعار.
حيث تشهد سوق النفط العالمية وفرة في الإمدادات، بعدما رفع تحالف أوبك بلس إنتاجه بشكل ملحوظ خلال الأشهر الأخيرة، فيما يواصل منتجو النفط الصخري الأمريكيون الحفاظ على الإنتاج عند مستويات قياسية غير مسبوقة.
وأشارت هيليما كروفت، الخبيرة الاستراتيجية في رويال بنك أوف كندا، إلى أن البيت الأبيض ربما قرر عدم اللجوء إلى احتياطي البترول الاستراتيجي الأمريكي، حتى خلال ذروة اضطرابات سوق الطاقة في الأسابيع الماضية، لأن المسؤولين «كانوا واثقين من توفر مصادر للبراميل البديلة، في حال حدوث انقطاع خطير في الإمدادات».
ويتوقع العديد من المحللين أن يشهد العالم فائضاً كبيراً في النفط الخام بحلول نهاية العام، ما سيضع مزيداً من الضغط النزولي على الأسعار، إذ تقول أمريتا سين: «الجميع لا يزالون يعتقدون أن سعر النفط سينخفض إلى مستويات 50 أو 60 دولاراً»، مضيفة: «بمجرد زوال عوامل المخاطرة، يعود المتداولون للتركيز على العوامل الأساسية للسوق».
وقد تسبب إعلان وقف إطلاق النار المؤقت بين إيران وإسرائيل، بوساطة من الرئيس دونالد ترامب، في موجة بيع جديدة يوم الثلاثاء، وهبط سعر خام برنت بنسبة 6.1 في المئة، ليصل إلى ما يزيد قليلاً على 67 دولاراً للبرميل، وهو مستوى أقل مما كان عليه قبل اندلاع الحرب.
وأكد المحللون أن تقلبات الأسعار الحادة في سوق النفط، تضخمت بفعل التداول في عقود الخيارات، تلك المشتقات المالية التي تزداد قيمتها عندما يتحرك سعر النفط صعوداً أو هبوطاً نحو مستويات سعرية محددة مسبقاً.
فمع تعرض أسواق النفط لضغوط متزايدة قبيل اندلاع المواجهات بين إيران وإسرائيل، نتيجة المخاوف من فائض المعروض وضعف الطلب، لجأ بعض المنتجين إلى خيارات تحقق أرباحاً، حال انخفاض أسعار النفط الخام.
ويعمد الوسطاء الماليون إلى إدارة هذه المراكز الاستثمارية من خلال شراء العقود الآجلة، وهي الأدوات الرئيسة المستخدمة في تجارة النفط، والتي تشكل الأساس لتحديد سعر النفط العالم.
وكما يوضح إيليا بوشويف الرئيس السابق لشركة «كوخ جلوبال بارتنرز» الأمريكية لتداول السلع، فإنه: «مع انخفاض خام برنت، ارتفعت احتمالية اضطرار الوسطاء لتسديد مدفوعات، ما دفعهم لبيع كميات متزايدة من العقود الآجلة»، مشيراً إلى أن هذه الموجة الإضافية من البيع، زادت من حدة الهبوط الذي شهدته الأسعار يوم الاثنين.