مشروعة وغير مشروعة: رفع السرّية المصرفية باب غربلة الودائع وإنصاف المستحقين
(النهار)-25/04/2025
مع دخول مشروع قانون تعديل السرّية المصرفية، من خلال رفعها ليُسمح لمصرف لبنان المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، من الباب التشريعي الأخير قبل أن يُصبح ساري المفعول، بأثر رجعي لعشر سنوات سابقة، يُمهِّد ذلك لضوء أمل باقتفاء أثر المخالفات والدهاليز المالية التي راكمتها مجموعات محدودة على حساب اللبنانيِّين واقتصادهم والدولة.
فعلى رغم من المحاولات الحثيثة لمنع إقرار مشروع القانون في مجلس الوزراء أولاً، ثم في اللجان النيابية المشتركة وأخيراً في الهيئة العامة لمجلس النواب، حمايةً لأسرار سرقة ودائع الناس واختفاء أموالهم، بات اليوم بعهدة الحكومة والمصرف المركزي والقضاء ورقة رابحة للضغط فيها على كل مَن يحاول عرقلة المسار الإصلاحي-التشريعي المفروض اتباعه للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد أولاً، وإعادة الثقة الدولية بالنظام المالي والدولة اللبنانية ثانياً، وانتظام المؤسسات والتخلّص من حالة الإفلات من العقاب ثالثاً.
فاليوم، لم يَعُد التمييز في رفع السريّة قائماً بين الحسابات المدينة والحسابات الدائنة، إذ شمل جميع أنواع الحسابات، وأي معلومات عائدة إلى شخص معنوي أو حقيقي يتعامل مع أيّ مصرف أو مؤسسة خاضعة إلى الرقابة، بما فيها تلك المحمية بالسرّية المصرفية تجاه أطراف أخرى.
وهدف مشروع القانون إلى عدم تقييد صلاحيات الجهات الرقابية والهيئات الناظمة بطلب معلومات محكومة بالسرّية المصرفية، أي أنّها لا تقتصر في مهمّة إعادة هيكلة المصارف بل تشمل أي غاية قانونية مبرّرة تراها ضرورية، مع إمكان تفويض هذه الصلاحية إلى هيئات أخرى (قضائية على سبيل المثال)، بموجب تعديل المادة 150 من قانون النقد والتسليف.
على رغم من هذه التعديلات الجوهرية والإصلاحية، إلّا أنّ مشروع القانون لم يلحظ أي صلاحية للجهات الضريبية في الاضطلاع على المعلومات، ممّا يحدّ بشكل كبير من إمكانية توسيع “الصحن الضريبي” في الحالات التي لا يُدقّق فيها، بعدما حذفت وزارة المالية هذا التعديل من مسودة مشروع القانون.
غير أنّ هذه التعديلات من شأنها تسهيل إجراء الكشف والتمييز بين ما هو مشروع من ودائع ويقتضي حمايته وما هو غير مشروع، بالتالي التحقيق بشأنه وتطبيق القوانين المرعية؛ ومن هذا المنطلق يمكن استتباعها بمشروع قانون بهذا الخصوص أعدّه رئيس لجنة حماية المودعين السابق في نقابة المحامين، المحامي كريم ضاهر، واطلعت عليه “الجمهورية”.
وفيه، تنشأ لجنة مختصة ومستقلة للتقييم والتحقق، مؤلفة من 5 أعضاء (أحد نواب حاكم “المركزي” أو ممثل آخر يُعيّنه المجلس المركزي رئيساً، ممثل عن لجنة الرقابة على المصارف، ممثل عن لجنة التحقيق الخاصة، ممثل عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وممثل عن نقابتَي المحامين في بيروت وطرابلس من ذوي الاختصاص والخبرة القانون المالي أو المصرفي بشرط ألّا يكون له صلة أو علاقة مع أي من المصارف العامة في لبنان)، كما ويمكن إضافة عضو سادس متخصّص بالتدقيق المحاسبي والجنائي، يُقترَح من قِبل نقابة خبراء المحاسبة المُجازين. وعليه بعد رفع السرّية المصرفية من قِبل لجنة الرقابة على المصارف للتدقيق بجميع الحسابات، تمهيداً لتصنيفها بين ودائع (مؤهلة للحماية والاسترداد) وغير مشروعة (غير مؤهلة للحماية والاسترداد) عملاً بالقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، من دون تمييز بين مُقيم وغير مُقيم على الأراضي اللبنانية، تُفاد اللجنة بنتائج هذا التدقيق ليُبنى على الشيء مقتضاه. ويعود لها البتّ بالطلبات المقدّمة إليها والإجابة عنها، كما واقتراح التسويات ومنح الأذونات والتراخيص والاستثناءات الخاصة وفقاً للأنظمة التي ستُقرّ لهذه الغاية، ومع مراعاة أحكام القانون رقم 214 /2021.
من خلال هذا المشروع يتقدّم أصحاب الحقوق والودائع – التي تتعدّى قيمتها مبلغاً يُحدّد بموجب القانون على ضوء نتائج التقييم الإجمالي للمصارف، بتصريح “إعرف عميلك” (KYC) جديد وفق المعايير الدولية، مرفقاً بمستندات تُثبت مشروعية الوديعة ومصدرها خلال مهلة 3 أشهر. هذا، ويعود للمودع حق إثبات مشروعية ودائعه ومصدرها بكافة الوسائل القانونية المشروعة.
كما يلحظ مشروع القانون المعدّ من قِبل ضاهر إلزامية أن يُثبت الأشخاص الطبيعيِّون المقيمون ضريبياً في لبنان، تقديم إفادة صادرة عن وزارة المال تُبيِّن الأرباح المصرّح عنها منذ السنة المالية 2015، فيما على الأشخاص الطبيعيِّين المُقيمين ضريبياً في الخارح تقديم الإفادة من وزارة المال في البلد المقيمين فيه مع رقم التعريف الضريبي (TIN)، يُثبت قيامهم بالتصاريح الضريبية الأصولية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأشخاص المعنويِّين والشركات والكيانات. كما يقتضي أيضاً التحقق في كل حالة من هوية صاحب الحق الاقتصادي Beneficial owner.
كما ويتعيّن على بعض أصحاب الودائع المعرّضين مثل الموظفين العموميِّين والمصرفيِّين وسواهم ممّن تلحظهم القوانين المرعية، السهر على تأمين وتسليم الجهاز المعني بالعناية والالتزام في المصرف المخصوص مستندات إضافية، ومنها تصريح بجميع ما يملكون أو كانوا يملكون خلال السنوات العشر الأخيرة من أموال منقولة وغير منقولة في لبنان و/أو الخارج.
وفي حال كانت هناك بعض الشكوك بأي وديعة، فتُحوّل موقتاً إلى حساب Fiduciary or escrow account، إلى حين البَتّ في مشروعيّتها. وفي حال انقضاء المهل من دون تقديم أي إثبات لمشروعية ومصدر الأموال، تُعتبَر هذه الودائع غير مشروعة بكاملها أو جزئياً وفقاً للحال ويسقط الدَين ويتمّ حذفه المتوازي من قيود المصرف ومن قيود مصرف لبنان. علماً أنّ الودائع المشروعة تَخصُم اللجنة منها الفوائد التي تجاوزت ليبور والفائدة المركبة والمحتسبة منذ التاريخ الذي سيُحدّده قانون معالجة الفجوة أو إعادة الإنتظام إلى المالية العامة.
وفيما يلحظ مشروع القانون هذا ضرورة اعتبار أي متقدّم لطلب استرداد وديعته موافقاً على رفع السرّية المصرفية التامة عنه، غير أنّ مشروع رفع السرّية المصرفية سبقه في التشريع، على رغم من أنّ هذا الأول يمكن لو أُقرّ أن يأتي متمِّماً لأي ثغرات مرّت في مجلس النواب.
كما أنّ مشروع غربلة الودائع يكمن في أنّه خطوة حاسمة إضافية في مسار سحب لبنان عن اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، مؤكّداً على نظافة قطاعه المصرفي المعاد هيكلته، ممّا يُعيد الثقة الدولية بشكل أسرع في إمكانية التعافي، إذ ستتقلّص الفجوة المالية للخسائر تلقائياً مع شطب الودائع المتأتية عن أعمال غير مشروعة، علاوةً على اتساع رقعة المكلّفين ضريبياً وتحسن الجباية، ممّا يؤمّن وفراً ضرورياً للموازنة العامة للدولة وتأمين شبكة أمان إجتماعية للمتضرّرين.