من الأزمة إلى الانطلاقة: لبنان على مفترق طريق
(النهار)-01/09/2025
يدخل لبنان في 2025 مرحلة دقيقة تجمع بين هشاشة اقتصاده من جهة، وظهور فرص إقليمية ودولية قد تفتح نافذة جديدة للخروج من دائرة الانهيار من جهة أخرى.
الأزمة الممتدة منذ 2019 أدت إلى خسارة نحو 40% من ناتجه المحلي الإجمالي خلال أربع سنوات متتالية، بحسب البنك الدولي، فيما فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 95% من قيمتها السوقية. لكن تقرير البنك الدولي الأخير عن لبنان أشار إلى نمو متوقّع قدره 4.7% في 2025 بعد انكماش قاسٍ بلغت نسبته 7.1% في 2024، وهذا يعكس مؤشرات استقرار أولي مدعوم بعودة النشاط السياحي وتحسن الاستهلاك المحلي.
يبقى هذا التحسن متواضعاً ومتوقفاً على القرار السياسي والإصلاحات البنيوية. فصندوق النقد الدولي أوضح أن لبنان حقّق بعض التقدم بتعديل قانون السرية المصرفية وسنّ إطار قانوني لإعادة هيكلة المصارف، لكنّه شدّد على أن البلاد لا تزال بحاجة إلى دعم خارجي واسع، وربط أي مساعدة مالية بتنفيذ إصلاحات إضافية تشمل إعادة هيكلة الدين العام وإطلاق قضاء مستقل قادر على فرض المساءلة.
هذه الشروط تعبّر عن الترابط بين الاقتصاد والسياسة، حيث لم يعد التمويل الدولي منفصلاً عن طبيعة النظام السياسي القائم ومدى قدرته على تقديم التزامات واضحة.
يرتبط التعافي اللبناني مباشرة بالتوازنات الداخلية، وبمدى استعداد القوى السياسية لقبول التغيير. فالإصلاح المصرفي، رغم ضرورته لاستعادة الثقة، يواجه مقاومة من شبكات مصالح مترابطة بين القطاع المالي والنخب الحاكمة. وعلى المستوى الخارجي، يوفّر الانفتاح الخليجي فرصة لا يُستهان بها. فقد بدأت دول مثل الإمارات والكويت برفع قيود السفر، وأشارت وكالة “أسوشيتد برس” إلى أن قطاع السياحة قادر على استعادة نحو 20% من الناتج المحلي إذا أعيد تنشيطه في بيئة مستقرة وآمنة.
لبنان يواجه تداعيات الحرب الأخيرة مع إسرائيل، حيث تقدر كلفة إعادة الإعمار بنحو 11 مليار دولار، وهذا مبلغ يفوق كثيراً قدرات الدولة المالية، ويستلزم تعبئة تمويل دولي من مانحين وصناديق تنموية. هذا الشرط يفرض على لبنان أن يرسل إشارات واضحة للمجتمع الدولي والخليجي عن جديته في تغيير المسار، خصوصاً في ملفات مثل حصر السلاح بيد الدولة.
في المقابل، ثمة عناصر قوة حقيقية يمكن البناء عليها. فالانتشار اللبناني في أفريقيا وأميركا اللاتينية يشكّل مصدراً مهماً للتحويلات المالية، والتي تقدّر بمليارات الدولارات سنوياً. وإذا ما وُضعت حوافز وقوانين شفافة لتوجيه هذه التدفقات نحو مشاريع إنتاجية بدلاً من استهلاك قصير الأمد، فإنها قد تتحول إلى رافعة تنموية. كما أن موقع لبنان الجغرافي وتقاليده التعليمية والثقافية يمنحانه فرصة أن يصبح مركزاً للشركات الناشئة في التكنولوجيا والخدمات الإبداعية، خاصة مع صعود الاقتصاد الرقمي في الخليج ومصر والأردن.
لبنان اليوم ليس أمام خيار استعادة صورته السابقة كـ”سويسرا الشرق”، بل أمام تحدٍ لصياغة نموذج جديد لدولة تستفيد من موقعها ومواردها البشرية وعلاقاتها الخارجية. الشرط الأساسي هو وجود إرادة سياسية رشيدة تتجاوز منطق المحاصصة نحو بناء مؤسسات قادرة على فرض القانون وتوفير الاستقرار. حينها فقط يمكن أن تتحول المؤشرات الإيجابية المحدودة اليوم إلى مسار طويل الأمد يعيد للبنان موقعه كفاعل اقتصادي إقليمي.
إن استعادة موقع لبنان ممكنة إذا توافرت الحوكمة والإصلاح البنيوي وربط الانفتاح الخارجي بالتحول الداخلي. وما بين تقديرات البنك الدولي وصندوق النقد، والاهتمام الخليجي والدولي المشروط بالإصلاح، يبدو أن لبنان أمام فرصة حقيقية ليكون نموذجاً لدولة ما بعد الأزمة، تستعيد عافيتها عبر مزيج من الإصلاح المؤسسي والديبلوماسية الاقتصادية الذكية.