وضعُ “بلومبرغ” الليرة في قائمة العملات الأسوأ واقعي؟مصرف لبنان ممتعض: عملتنا إلى المزيد من الاستقرار
(النهار)-12/03/2024
لم يستسغ مصرف لبنان ومعه لبنانيون كثر تصنيف “بلومبرغ” لموقع الليرة السيىء إزاء العملات الدولية الأخرى، إذ اعتبروا أن التصنيف ظالم وغير بريء في مقاربة واقع النقد اللبناني وموقع الليرة راهنا في السوق اللبنانية بعد مسار من الإنهيار الدراماتيكي القاسي، والذي لم تكن لتسلم منه أي عملة وطنية في ظل الظروف والأوضاع عينها التي كان ولا يزال يمر بها لبنان.
الإستغراب من تصنيف “بلومبرغ” مردّه إلى أن الليرة اللبنانية تعيش منذ سنة تقريبا في مربع الاستقرار، بعدما نجحت نسبيا إستراتيجية شفط السيولة من السوق وتخفيض التضخم إلى مستوى قياسي أفقد تجار العملات وربابنة السوق السوداء والمهربين، مواد المضاربة على سعر الصرف، هذا إلى جانب استمرار المصرف المركزي وبتوافق كلّي مع وزارة المال، في دفع رواتب وأجور جميع موظفي القطاع العام والمتقاعدين بالدولار “الفريش” ما أعاد التوازن نوعاً ما بين عروض البيع والشراء.
ما أتت به “بلومبرغ” هو ربما نتيجة مجموعة من التقييمات العلمية التي تعتمدها الوكالات والمؤسسات المالية والإقتصادية العالمية، والتي تختلف معايير التقييم والمقاييس والأداء لديها من مؤسسة إلى أخرى. فمنها مَن يعتبر عدم استقرار العملة على سعر صرف ثابت أحد ملامح السقوط والانهيار، وأخرى تجد أن خسارة العملة الوطنية من قيمتها عامل سلبي جدا ومحبط لأي عملية نمو وتطور إيجابي مستقبلا في الاقتصاد، إلى آخرين يرون أن فقدان أي عملة وطنية موقعها كعملة ادخار لأجل، كافٍ لخروجها من المربع الآمن وخسارتها الثقة التي تعدّ أحد أركان عوامل قوة العملات الوطنية.
ما سبق، هي معايير ومقاييس لا يرفضها عاقل ولا ينفيها علم اقتصاد، وفق ما تؤكد مصادر مصرفية. لكن الواقع اللبناني والتطورات منذ سنة حتى اليوم تمنح الليرة اللبنانية بعض الثقة (ربما المشوبة بالحذر) حيث إن الاستقرار على سعر 89500 ليرة الصامد منذ سنة حتى اليوم هو نصف الطريق نحو استعادة الثقة المفقودة والموقع والدور، في ما لو تأمن لليرة وللبلاد مجموعة من عوامل الاستقرار الأمني والسياسي والتشريعي.
ضبطُ التأرجح صعودا وهبوطا لسعر الصرف هو إنجاز نوعي، وصناعة استقرار نقدي ومالي في ظل شغور مواقع كبرى مثل رئاسة الجمهورية وحاكمية مصرف لبنان كفاءة تمنح الليرة فرصة إعادة “أخذ نفس” في ما لو تأمن لها ما يلزمها من أسباب النجاة.
تعيش الليرة وما بقي منها في ظروف سياسية وأمنية مشوبة بالخطر الشديد الذي يهدد بسقوط جميع مقومات وأركان بنيانها الاقتصادي. فمن شغور موقع رئاسة الجمهورية، وتشتت القرار الحكومي، ومعهما شغور حاكمية مصرف لبنان، إلى التهديدات اليومية الإسرائيلية بمزيد من الحديد والنار والدمار عند الحدود الجنوبية وخطر تمدد الحرب إلى الداخل اللبناني أكثر، اضافة إلى فشل مشروع استخراج النفط والغاز من البحر الجنوبي، و”تطيير” وعود البحبوحة والإزدهار ودولارات إستعادة الودائع وغيرها من الظروف القاتمة… إزاء كل ما سلف، تؤكد مصادر متابعة أنه “لا يمكن مع القليل من الموضوعية، إلا وضع الليرة في موقع متقدم أكثر بكثير مما وضعته فيه “بلومبرغ”، ولكن السياسة غالبا ما تكون وفق التجارب اللبنانية في خدمة المؤسسات العالمية أو بالعكس”.
اذاً، تصدرت الليرة اللبنانية قائمة العملات الأسوأ أداء على مستوى العالم خلال عام 2024، حيث سجلت تراجعا هائلا بنسبة تفوق 83% مقابل الدولار الأميركي. وتأتي الليرة النيجيرية في المركز الثاني بتراجع 42% منذ بداية العام.
وبحسب بيانات “بلومبرغ”، حلّت العملات العربية في المراكز الأمامية للعملات الأسوأ أداء، إذ احتل الجنيه المصري المرتبة الثالثة بتراجع 38.3% مقابل الدولار.
مصادر مصرف لبنان أكدت أن “بلومبرغ” “استندت في حساباتها الى نِسب الانخفاض لليرة للعام 2023، آخذة في الاعتبار تخطي سعر الصرف الى نحو 140 ألف ليرة في آذار 2023. ولكن بعد استقرار سعر الصرف منذ نحو سنة تقريبا، فإنه من المستهجن هذا التقييم”.
وتتوقع المصادر أنه “في حال الاستقرار الامني في الجنوب وانتخاب رئيس للجمهورية والاستمرار في الاجراءات الجذرية التي يقوم بها مصرف لبنان وخصوصا حيال تعزيز احتياطاته بالعملات الاجنبية، ستتعزز الثقة بالليرة أكثر”، معتبرة أنه “على رغم الاجواء التي تعيشها البلاد، يؤكد ارتفاع الاحتياط بأكثر من مليار دولار (كل الكتلة النقدية في السوق لا تتجاوز الـ 600 مليون دولار)، أن مصرف لبنان استطاع ادارة الازمة بحكمة، وتاليا تثبيت الاستقرار النقدي”.
وفيما يعزو البعض سبب ارتفاع الاحتياط الى الايرادات التي حققتها الدولة، تؤكد المصادر أن صافي المبلغ لدى مصرف لبنان يتجاوز الـ 850 مليون دولار، علما أن ايرادات الدولة التي كانت تقدر بنحو 500 مليون دولار انخفضت حاليا، عدا عما خسره الاحتياط بسبب تراجع سعر اليورو، اضافة الى ما دفعه مصرف لبنان لزوم التعميم 158، في حين لا تتجاوز ايداعات المصارف لدى مصرف لبنان لزوم التعميم 165 الـ 12 مليون دولار.
واستغربت المصادر اصرار البعض على “التعمية عن الحقيقة وعدم الاضاءة على الامور الايجابية في البلاد، وأكثر… فإنهم يهوّلون بأن لبنان قاب قوسين من الانهيار الكبير، وكأن مصلحتهم ليست في الاستقرار النقدي والمالي وتخطّي الازمة”.
الباحث في شؤون الاقتصاد محمود جباعي يقول ان تقرير “بلومبرغ” الدوري يلحظ تراجع سعر الليرة من 1500 ليرة الى 89500 بنسبة 83% منذ ايلول 2019 الى اليوم، معتبرا أن “المراحل الزمنية في عالم الاقتصاد والمال تقاس تباعا، اي يمكن القول انه منذ آذار 2023 حتى اليوم ثمة استقرار في سعر صرف الليرة، وتاليا لسنا أمام انهيار لليرة. وهذا ما تؤكده المؤشرات النقدية، في حين تبين قدرات مصرف لبنان ان الاستقرار النقدي سيكون طويل الامد”. ويرى جباعي أن “وضع الليرة يمكن ان يتحسن أكثر اذا ما انجزت بعض الاصلاحيات الاقتصادية والمالية”، وتاليا إن “تصنيف الليرة اللبنانية كأسوأ عملة هو تصنيف غير منطقي، خصوصا في ظل ترحيب المجتمع الدولي المالي باجراءات المصرف المركزي النقدية، بدليل أن الخزانة الاميركية تؤكد أن لبنان يعتمد المعايير المالية العالمية وملتزم بمبدأ الشفافية المالية، وهذا الامر أكده ايضا الوفد الاميركي الذي زار لبنان أخيرا”. ويشير الى أن “مصرف لبنان يعمل بالشراكة مع وزارة المال على التماهي بين السياسة النقدية والمالية للمحافظة على ضبط سعر صرف الليرة الذي ينعكس ايجابا على مختلف المجالات والقطاعات”.
لكن مصادر متابعة لم تستغرب وضع “بلومبرغ” الليرة اللبنانية في صدارة قائمة العملات الأسوأ أداء لسنة 2023، إذ إن ثمة 3 عوامل اساسية تؤخذ في الاعتبار عند تصنيف اي عملة، أولها أن تكون قابلة للادخار، وأن تكون وسيلة للمشتريات، وأن تكون عملة التسعير في بلادها. وهذه العوامل برأي المصادر غير متوافرة في العملة اللبنانية، فالثقة بالعملة الوطنية لم تعد كما في السابق بعدما فقدت نحو 60 ضعفا من قيمتها، اضافة الى ان تداول المواطنين بها خفّ كثيرا، خصوصا أن أكبر فئة (100 ألف ليرة) تساوي دولارا واحدا تقريبا فيما لا تتجاوز أكبر فئة في العملات الـ 50 دولارا. وأشارت المصادر الى أن “بلومبرغ” أخذت في الاعتبار عدم الثقة بالليرة كعامل أساسي اضافة الى استخدام اللبنانيين الدولار في شراء حاجاتهم، خصوصا بعدما تم اعتماد دولرة الاسعار، عدا عن عدم اعتماد الليرة كعملة ادخار، خوفا من انخفاض قيمتها مستقبلا.
ولكن بحسب المصادر، “الأمور قد تتبدل في التصنيف المقبل. فالليرة حاليا مستقرة ومدعومة بعدد من العوامل، لعل أهمها التعميم 165 الذي سمح بالتداول بالليرة “الفريش” من خلال الشيكات التي بدأت تزيد نسبتها تدريجا وبشكل لافت، عدا عن ان امكان المحافظة على الاستقرار أمر وارد جدا، خصوصا مع زيادة ايرادات الدولة”، لافتة الى أن “استرجاع الثقة بالبلاد أمر سيعزز الثقة بالليرة أكثر، خصوصا اذا ما تم انتخاب رئيس للجمهورية والافراج عن القوانين الاصلاحية ومنها إعادة هيكلة المصارف وإعادة هيكلة القطاع العام و”الكابيتال كونترول” وغيرها من القوانين”.