إعادة النظر في القواعد المالية ضرورة ملحة في عالم متغير
(البيان)-07/08/2024
*بقلم: محمد العريان
يقوم العديد من الآباء، وكذلك الحكومات والبنوك المركزية، باتباع قواعد محددة، ولديهم أسباب وجيهة لذلك. فالتزامهم المستمر بقواعد واضحة وصريحة، حتى وإن كانت تعسفية، يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تغيير السلوك والتصورات.
كما يمكن أن يساعد التزام الحكومات والبنوك المركزية الواضح بالقواعد على استعادة المصداقية والنفوذ، ويعزز فرص تحقيق النتائج التي يرجونها. رغم ذلك، هناك أيضاً حالات يكون فيها وضع القواعد عائقاً أمام عملية اتخاذ القرارات الجيدة. وهذا واضح على جانبي المحيط الأطلسي، ما يهدد الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.
انجذب الاقتصاديون إلى وضع القواعد في صنع السياسات كوسيلة للتغلب على إرث خلفته أخطاء وهياكل الماضي، التي تقوض النمو الاقتصادي والاستقرار المالي. ومن أكثر الأمثلة شيوعاً اعتماد أهداف تضخمية واضحة ومعلنة جيداً للبنوك المركزية، وفرض حد للعجز المالي وزيادات الدين العام. وتكاثرت القواعد المفروضة على الشركات، خاصة البنوك، عقب الأزمة المالية عام 2008، في عصر يولي اهتماماً أكبر لحماية المستهلك.
وكانت هذه القواعد فعالة، فقد ساهمت في إصدار توقعات مستقرة للتضخم، وسياسة مالية أفضل، وتركيز أكبر على الديون ونظام للقطاع المصرفي أقل ضعفاً. كما دعم هذه القواعد إجماع محلي يؤيد رفع القيود التنظيمية والتحرير، والحصافة المالية، وإجماع عالمي على تعميق العولمة.
لكن ما أثبت نجاحه في الماضي قد يشكل الآن عائقاً أمام الرفاهية الاقتصادية في ثلاث حالات محددة، وهي القواعد المالية في المملكة المتحدة، وهدف التضخم في الولايات المتحدة، والقيود المختلفة المتعلقة بالموازنة في أوروبا.
خلال الأسبوع الماضي، أكدت وزيرة الخزانة البريطانية راشيل ريفز التزام حكومة حزب العمال الجديدة الشامل بالقواعد المالية، بقولها: «إذا لم نكن قادرين على تحمل التكاليف، فلا يمكننا القيام بها». جاء ذلك عقب الكشف عن «ثقب أسود» في الميزانية قدره 22 مليار جنيه إسترليني، ما أدى إلى سلسلة تخفيضات في الإنفاق، شملت إلغاء بعض مشاريع الطرق والسكك الحديدية وتقييد اعتمادات وقود الشتاء لقلة من أصحاب المعاشات التقاعدية.
وقد حدث ذلك في ظل حكومة لم تتبنَّ القواعد المالية لسابقتها بشكل كامل فحسب، بما في ذلك هدف خفض عبء الديون بحلول نهاية فترة خمس سنوات، بل عملت أيضاً على تعزيزها، وضمنت شرطاً جديداً فرضته على نفسها بمشاركة خطة إنفاق تفصيلية لمدة ثلاث سنوات مع مكتب مسؤولية الميزانية كل عامين بشأن كيفية إنفاق الأموال العامة.
ورغم أهمية ذلك بالنسبة للتواصل والحفاظ على مصداقية السوق، إلا أن هناك خطراً يتمثل في أن المواصفات الحالية لهذه القواعد المالية سيعوق «مهمة النمو» الحاسمة للحكومة. فهذه القواعد لا تميز بشكل كافٍ بين الموارد، والأهم من ذلك، كيفية إنفاق الأموال. كما أنها تتسم بالتعسف في إطارها الزمني.
وسيكون من المفيد للمملكة المتحدة وجود فريق من المحللين ذوي مصداقية لإعادة تقييم القواعد المالية ودمجها بأسلوب أكثر حنكة مع مهمة النمو التي تتولاها الحكومة. ولتقليل خطر اضطراب السوق، وهو أمر يثير قلق الحكومة خاصة بعد تجربة رئيسة الوزراء السابقة ليز ترس، فلا بد من أن يكون ذلك مصحوباً بتدابير مؤسسية لتعزيز التواصل مع المشاركين في السوق، على غرار ما تفعله الحكومة الأمريكية مع لجنة استشارات الاقتراض التابعة لوزارة الخزانة.
كما تجد الولايات المتحدة وأوروبا نفسيهما عالقتين بقواعد تحتاج إلى بعض التعديلات، رغم أنها مصممة بنوايا حسنة. ويشمل ذلك هدف التضخم الذي حدده الاحتياطي الفيدرالي بنسبة 2%، والذي كان مناسباً تماماً لعالم الأمس حيث كان الطلب الكلي غير كافٍ، لكنه صارم للغاية بالنسبة لعالمنا المعاصر والمستقبلي في سياق التفتت العالمي وإعادة هندسة سلاسل التوريد ومجموعة القيود المفروضة على العرض. وتوضح أحدث البيانات الاقتصادية الضعيفة ما أصبح يتطور إلى نهج مفرط في التوجيهات المستقبلية للسياسات العامة، والذي يتضمن «مخططات نقطية» ربع سنوية تسهب في تفاصيل التوقعات الاقتصادية. وفي أوروبا، تعوق القيود المالية المحلية والإقليمية الاستثمارات اللازمة لتعزيز الإنتاجية والنمو.
ويُعتقد أن الجنرال الأمريكي الراحل دوغلاس ماك آرثر، قال إن «القواعد وضعت في الغالب لتُخرق، وعادةً ما يعتمد عليها الكسالى للاحتماء خلفها». وهذه ليست النقطة التي أطرحها هنا. بل إنني أقترح تحديث خصائص بعض القواعد لضمان أنها تخدم أهدافها الأساسية، وأنها تعكس عالمنا المعاصر والمستقبلي. بدون ذلك، قد ينتهي الأمر بعرقلة الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية.
عميد كلية كوينز بجامعة كامبريدج ومستشار لمجموعتي أليانز وجراميرسي