الاقتصاد العالمي الاستثنائي يحتاج إلى الكثير من المرونة غير الاعتيادية
(البيان)-04/12/2024
محمد العريان*
يتشكل الاقتصاد العالمي للعام 2025 على نحو يصبح معه استثنائياً وغير اعتيادي، فتزعزع الثقة بالفعل تجاه آفاق النمو القوي وانخفاض التضخم يفسح المجال لتوقع مجموعة واسعة من النتائج المحتملة. والسؤال هنا ليس ما إذا كانت الولايات المتحدة سوف تستمر في التفوق على معظم البلدان الأخرى.
فهي ستفعل ذلك بالتأكيد. بل إن الأمر يتعلق بدرجة أكبر بمستويات التباين في النمو والتضخم ودرجات الاضطرابات في البنية الاقتصادية والمالية العالمية. وتمتد الآثار المترتبة على ذلك إلى ما هو أبعد كثيراً من الرفاه الاقتصادي في الأمد القريب.
إننا نشهد حالياً مزيجاً غير عادي من الاستثنائية الاقتصادية الأمريكية والشقوق العميقة في البنية العالمية التي يهيمن عليها الغرب، وهو ما خدم الولايات المتحدة جيداً. وهذا مزيج غير مستقر، وإذا خرج عن مساره بسبب تناقضاته الداخلية المتنامية، فسوف يؤدي إلى تفتت عالمي أكبر في التجارة والتكنولوجيا وأنظمة المدفوعات، إلى جانب تباطؤ النمو وارتفاع التضخم في الولايات المتحدة وأماكن أخرى حول العالم.
ولكن من ناحية أخرى، فإنه إذا جرى اتخاذ إجراءات سياسية في الوقت المناسب، فقد يستقر العالم في ظل شكل ما من «العولمة المخففة» يتم التفاوض عليها بين البلدان بدلاً من التفتت. وقد يؤدي ذلك إلى تمكين النمو من أن يمد جذوراً أعمق، ويرسخ استقرار الأسعار، ويواجه الخلل النظامي.
وبالفعل، يدخل الاقتصاد العالمي عام 2025 بنمو كبير واختلافات وتباينات في الأسواق المالية. وخلال الشهر الماضي، رفع صندوق النقد الدولي معدل النمو لعام 2024 للولايات المتحدة إلى 2.8%، وهو المستوى الذي يرجح أن يرتفع مرة أخرى. وفي منطقة اليورو، يتراجع النمو إلى 0.8، فقط.
وفي الاقتصادات الناشئة، هناك تباطؤ في ظل معاناة الصين لتحقيق توقعاتها المنخفضة بالفعل البالغة 4.8%. وحتى الهند، صاحبة الأداء المتميز، قد ترى تعرض نموها المتوقع بنسبة 7% للخطر. وفي المقابل، حقق مؤشر ستاندرد آند بورز 500 مكاسب بنسبة 27% حتى الآن هذا العام، متفوقاً بشكل كبير على الأسواق في كل من أوروبا والصين والهند.
ولا يوجد الكثير على الصعيد السياسي يشير إلى تغيير ممكن في هذه الصورة الدولية، فعملية صنع السياسات الاقتصادية في فرنسا وألمانيا تواجه عقبات كبيرة بسبب حالة عدم اليقين السياسي. وفي ظل بعض المخاوف من أن الصين تواجه عملية متعمقة لتحول اقتصادها إلى النموذج الياباني، تكافح بكين للتوفيق بين إعادة توجيه استراتيجيتها للنمو والضغوط قصيرة الأجل التي تفرضها عليها تدابير التحفيز التقليدية.
في الوقت نفسه، تثبت صعوبة قطع «الميل الأخير» من العمل الذي تقوم به البنوك المركزية الكبرى لبلوغ معدل تضخم منخفض ومستقر، حيث يقوض هذا العمل التردد في التحول بشكل حاسم من نمطها المفرط في التفاعل والاعتماد المفرط على البيانات لتحديد السياسات.
وقد أدى الافتقار إلى نهج استراتيجي استشرافي إلى دفع بنك الاحتياطي الفيدرالي، على وجه الخصوص، إلى سلسلة من الإشارات المتضاربة التي تغذي تقلبات سوق السندات. وفي غياب التوجيه السياسي المستقبلي الموثوق، هناك الآن نقاش متزايد حول ما إذا كان ينبغي لبنك الاحتياطي الفيدرالي الاستمرار في خفض أسعار الفائدة، أو تخطيها، أو التوقف مؤقتاً في ديسمبر، ناهيك عما سيأتي بعد ذلك.
ويأتي ذلك كله قبل التغييرات القادمة مع الإدارة الأمريكية الجديدة. وهي معقدة بشكل خاص بالنسبة للمستثمرين لتحليلها، حيث تتفاعل التحولات المحتملة في التجارة الأمريكية والهجرة والسياسات المالية مع مجموعة من الاستجابات في ما يتعلق بتسعير الشركات ومرونة العرض والطلب ونظرية اللعبة وفنون الحكم.
وهناك أيضاً مسألة كيف ستحفز الضغوطات الاقتصادية التغيرات العالمية، خاصة في ما يتعلق بتنويع الاحتياطيات الدولية بعيداً عن الدولار والاهتمام المتزايد بأنظمة الدفع البديلة غير الدولارية. وهذا هو مصدر التحذيرات التي وجهها ترامب في نهاية الأسبوع.
لا يمكن الإجابة عن نحو مريح عن الأسئلة حول هذه التوقعات غير المؤكدة إلا إذا كانت لديك الثقة في قدرة صناع السياسات على فهم هذه الديناميكيات غير العادية والتكيف وفقاً لذلك بما في ذلك عبر مفاوضات استباقية معقولة مع الإدارة الأمريكية القادمة وبما يتفق مع التحالفات الأطول أمداً والمصالح المشتركة. وهذا ممكن بالنسبة لمعظم البلدان باستثناء الصين.
إنه كلما طال أمد التأخير، تعاظمت العقبات أمام محركات النمو والاستقرار المالي، وأصبح من الصعب بدرجة أكبر إطلاق العنان لمحركات الازدهار في المستقبل مثل تطورات واختراقات الذكاء الاصطناعي وعلوم الحياة. عموماً، فإنه من الممكن أن تعمل الزعامة السياسية ومرونة السياسات والتسويات المعقولة على خلق مسار نحو آفاق أكثر إشراقاً في الأمد المتوسط.
*رئيس كلية كوينز في كامبريدج، ومستشار لشركتي «أليانز» و«جراميرسي»