التصنيفات السيادية لدول مجلس التعاون والحلقة التي في “سبات”
(العربية)-01/12/2025
*د. إحسان علي بوحليقة
ما أن تُصدِر إحدى وكالات التصنيف الائتماني الرئيسة الثلاث تصنيفاً يخص إحدى الدول حتى يكون محل أخذ ورد، فما أهمية التصنيف السيادي للدولة -لأي دولة؟ يتمحور التصنيف حول تقييم “جودة” الدَين الحكومي طويل وقصير الأجل، وتكتسب التصنيفات السيادية الصادرة عن الوكالات الثلاث أهميتها كونها مُحدِّد لتكلفة الاقتراض الخارجي للدولة؛ فكل درجة أعلى توفر على الدولة المُقتَرضة ملايين الدولارات سنوياً من تكلفة الفوائد ،كما تؤثر مباشرة على تكلفة الدين للقطاع الخاص والمصارف داخل الدولة، حيث أن العقود والسندات المحلية ليس بوسعها تجاوز “سقف سيادي” (sovereign ceiling)، فانخفاض التصنيف درجة واحدة يرفع متوسط العائد على السندات السيادية بين 50-150 نقطة أساس، فضلاً عن أن الصناديق السيادية وصناديق التقاعد والبنوك المركزية ولوائح بازل III مُلزمة بالارتكاز على التصنيفات كأساس لاتخاذ قراراتها الاستثمارية.
التصنيف السيادي هو رأي مستقل تصدره كل على حدة جميع أو إحدى وكالات التصنيف الائتماني الرئيسة الثلاث (S&P Global Ratings، Moody’s Investors Service، Fitch Ratings) حول مدى قدرة دولة ما على سداد ديونها الخارجية بالعملة الأجنبية عندما يحل الأجل وبالكامل. يُعبَّر عن درجة التصنيف بحروف (من AAA/Aaa إلى D/C)، وينقسم إلى فئتين رئيسيتين: (1) “درجات استثمار” ( درجة BBB فأعلى) عند وكالتيّ S&P وFitch، ودرجة Baa3 فأعلى عند وكالة Moody’s، (2) ودرجات مضاربة (Speculative/Junk). درجة الاستثمار تعني أن الدولة تتمتع بمخاطر ائتمانية منخفضة إلى متوسطة، وبالتالي تُعتبر آمنة نسبياً للاستثمار المؤسسي، أما درجة المضاربة فتعكس أن الدولة تواجه مخاطر ائتمانية مرتفعة إلى مرتفعة جداً، وقد تتعثر في سداد ديونها أو خدمة تلك الديون في حال تعرض اقتصادها لصدمات.
وتتبع كل من وكالات التصنيف الثلاث منهجيات متشابهة للوصول لمنح درجة معينة للديون السيادية للدولة، وذلك وفق خمس محاور، حيث يقيم كل محور على حدة ثم تعالج سوياً وصولاً إلى المحصلة وهي درجة تصنيف الدولة؛ استقراراً او هبوطاً أو صعوداً، هذه المحاور:
- القوة المؤسساتية والحوكمة (Institutional & Governance Effectiveness).
- الأداء الاقتصادي والنمو والهيكل الاقتصادي (Economic Assessment).
- المركز المالي الخارجي (External Finances) – احتياطيات النقد الأجنبي، الدين الخارجي، ميزان المدفوعات.
- الأوضاع المالية العامة (Fiscal Performance & Flexibility) – نسبة الدين/الناتج المحلي الاجمالي، العجز المالي، مرونة الإيرادات.
- المرونة النقدية (Monetary Flexibility) – استقلالية البنك المركزي، قدرة تعديل سعر الصرف أو السياسة النقدية.
أما تصنيف الدين السيادي لدول مجلس التعاون فعلى الرغم من أنه يخضع للمحاور الخمسة الآنفة الذكر، فإن التغييرات الجيوسياسية التي تؤثر بطبيعة الحال على أسعار النفط، تجعل التصنيفات تخضع لموجٍ مُتلاطم؛ فإذا نظرنا إلى تصنيفات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية خلال العشر سنوات (2016-2025)، نجد أنها شهدت تذبذباً ملحوظاً خلال الفترة، مدفوعاً بتقلبات أسعار النفط العالمية والإصلاحات الاقتصادية، ففي العام 2016 كان التصنيف السيادي لديون الدول في درجة “استثمار”، مع الإمارات وقطر عند AA، والكويت AA-، والسعودية A-، وعُمان BBB-، والبحرين BB، ثم دفع انخفاض سعر النفط في 2016-2017 إلى هبوط البحرين إلى B+ ، وعُمان إلى BB+، والسعودية إلى A- مع استقرار، بحلول العام 2020، تفاقمت الضغوط بفعل جائحة كوفيد-19، مما أدى إلى هبوط سلطنة عُمان إلى BB-، بينما حافظت الإمارات وقطر على AA.، وخلال فترة التعافي من تبعات كوفيد (2021 إلى 2023)، بدأت التحسن في التصنيف، حيث عادت عُمان إلى BB+، والسعودية إلى A، والكويت إلى A+ ، بينما انخفضت البحرين إلى B+،ثم في 2024-2025، شهدت التصنيفات السيادية لديون دول المجلس ترقيات إيجابية، حيث ترقت المملكة العربية السعودية إلى A+ بفضل رؤية 2030 والتنويع غير النفطي، وفي عُمان إلى BBB- مع ميزانيات متوازنة متوقعة بحلول 2028، ودولة الكويت إلى AA- بتقدم الإصلاحات، بينما هبطت مملكة البحرين إلى B في 2025، وحافظت دولتي الإمارات وقطر على AA.. وإجمالاً، تعكس هذه التغييرات انتقالاً تدريجياً نحو الاستقرار، مع متوسط تصنيف لدول مجلس التعاون عند “ A-“ في 2025، ومن ناحية ثانية تبين أن الإيرادات النفطية لم تزل تشكل ثقلاً مؤثراً في الحراك بين الاستقرار والتذبذب في تصنيفات الدين السيادي لدول الخليج، مما يؤكد جدوى التحول إلى الأنشطة غير النفطية كما هو ملاحظ من تمكن السعودية الارتقاء 4 درجات خلال العشر سنوات محل النظر (2016-2025).
ولعل من المناسب في هذا السياق عقد مقارنة خاطفة بين تصنيفات دول مجلس التعاون وتصنيفات دول الاتحاد الأوروبي (2016-2025)، حيث يُظهر تفوق تصنيفات الاتحاد الأوروبي تفوقاً واضحاً بمتوسط AA مقابل Aلدول مجلس التعاون، وهو تفوق مدعوم بالاندماج المالي والاقتصادات المتنوعة في أنشطتها والمتقدمة في انتاجيتها، فضلاً أنه خلال فترة جائحة كوفيد (2020-2022(، استفادت الدول من الدعم المشترك Next Generation EU قوامه 800 مليار يورو، ما أدى لرفع البرتغال إلى A- واليونان إلى BBB-، وهكذا بقي التصنيف لدول الاتحاد الأوربي مستقراً مع AAA لألمانيا وAA لفرنسا، رغم ضغوط الديون في إيطاليا (BBB) . هذا التباين يعكس قوة الاتحاد الأوربي في التنويع والحوكمة، مقابل اعتماد دول مجلس التعاون للحد البعيد على الإيرادات النفطية لتغطية إنفاق الميزانية العامة بما في ذلك سداد ما عليها من ديون حكومية. وأن الاتحاد الأوربي يصدر أدوات دين مباشرة، وقد فعل ذلك للتصدي للصدمة الاقتصادية التي نتجت عن جائحة كوفيد، في حين أن دول مجلس التعاون لم يصل العمل المشترك فيما بينها بما يمكن الأمانة العامة من إصدار سندات، ولا البنك المركزي الخليجي من ممارسة أي دور في إعادة شراء تلك السندات من السوق الثانوية كما يفعل نظيره الأوربي.
وما تقدم يدفعنا لاستذكار الأهمية المتعاظمة لإعادة إحياء حلقة -لا أقول أنها مفقودة- بل “مُجمدة” ما برحت تعايش “سباتاً” منذ سنين على أجندة مجلس التعاون، فإذا تحقق الاتحاد النقدي بين دول مجلس التعاون مستقبلاً، فسيكون له -دون شك- تأثير كبير على النظام المالي للدول الست وسيكون له وزن مؤثر عالمياً، ليس فقط لما يتعلق باستقرار التصنيف السيادي للدول الأعضاء، بل كذلك لوضع أطر للاستفادة من المستجدات وأن تجني بذلك دول مجلس التعاون كافة ثماراً من تأثيرات والفرص الناتجة عن التطور في السياسات والمنتجات النقدية الرقمية؛ فمعظم دول مجلس التعاون، في مراحل الدراسة أو الاختبار العملات الرقمية لبنوكها المركزية (ـCBDC)، حيث يمكن أن تساهم فتلك العملات فيي خفض تكاليف المدفوعات وتعزز الشمول المالي بما يتجاوز المصارف، وكذلك تنظيم التقنية المالية (ـFinTech)، ودعم العملات المستقرة (stablecoins) بما في ذلك المتوافقة مع الشريعة، وتطوير أطر التمويل اللامركزي ( DeFi)، مع الحفاظ على الارتباط بالدولار الأمريكي للاستقرار النقدي.
