الحلقات الأضعف بسلسلة الاقتصاد العالمي في طور الإصلاح
(البيان)-27/03/2024
روشير شارما*
اجتازت القوى العالمية الناشئة، مثل: الهند وإندونيسيا، التقلبات التي وقعت في الأعوام الماضية وخرجت منها في حالة جيدة، وبات يُشار إليها بالبنان على نطاق واسع لنجاحاتها. والآن، تسلك الكثير من الاقتصادات الناشئة المتعثرة طريق الإصلاحات أيضاً، وبدأت الأسواق في مكافأتها على ذلك.
ومن بين أبرز هذه الدول تركيا والأرجنتين ومصر ونيجيريا وكينيا، وهي ذات أهمية وثقل. تُعدّ الدول الخمس في طور الإصلاح من بين أكبر 40 اقتصاداً ناشئاً على مستوى العالم، ومن ثَم، فإن اتجاهها إلى سلوك طرق أفضل يعزز التعافي الاقتصادي العالمي بدوره.
وبينما تضررت جراء ارتفاع التضخم والديون وأوجه العجز، كانت احتياطات النقد الأجنبي لدى هذه البلاد تنضب هي أيضاً مع تصاعد أسعار الفائدة على نحو حاد عالمياً في 2022. لم تجد هذه الدول خياراً سوى التغيير، بعدما تسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض في تثاقلها بالديون على نحو أكبر. لا يفصح قادة الدول، سواء بالأرجنتين وكينيا ونيجيريا المُنتخبين حديثاً، عن هدف الإصلاح علناً، لكن خطط الإصلاح خاصتهم إنما تأتي مباشرة من صفحات إجماع واشنطن القديمة وشديدة التعرض للانتقادات. وعادة ما يكون الانضباط المالي واحترام قوى السوق هي الخيارات السياسية التي تفلح مع البلدان التي نفدت أموالها.
لكن الدول الخمس التي تسلك مسار الإصلاح لا تحصل على التقدير الذي تستحقه. شهدت هذه الدول عجزاً تجاوز 5% من الناتج المحلي الإجمالي قبل عام من اليوم. أمّا معدلات التضخم فقد تجاوزت نسبة 9% بكثير للغاية، بل وفاقت 200% في الأرجنتين. أمّا المستثمرون، فإما كانوا يطالبون بعلاوة كبيرة للغاية للاحتفاظ بالسندات السيادية لهذه البلدان، وهو ما دفع عائداتها إلى تخطي السندات الأمريكية 15 نقطة مئوية، أو تخلّوا عنها. وإذا ما كانت الألقاب التي سُميت بها الأسواق الناشئة ما زالت دارجة، لكانت سُمّيت هذه الدول «الخمس الهشة» لهذا العقد.
سجّلت احتياطات النقد الأجنبي لدى هذه الدول مستويات منخفضة جديدة مع هروب رؤوس الأموال، وشهدت حداً أقصى للانخفاض بنسبة الثلث في المتوسط. قاومت الحكومات هذه الضغوطات في بادئ الأمر، في محاولة منها لإعادة الاستقرار للعملات عن طريق فرض قيود على رأس المال. لم يسفر هذا إلا عن لجوء المستثمرين إلى الأسواق السوداء، حيث كانت العملات الخمس تُتداول عند مستويات دون سعرها الرسمي بنسبة 45% في المتوسط.
ثم انكسرت الأمور على صخرة الواقع، وبدأت الدول المتعثرة بالخضوع للواقع الذي يفرضه السوق، وكان آخر هذا في مصر تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي أعلن مؤخراً آخر جولة من الإصلاحات الشهر الماضي. اتخذت مصر خطوات نحو خفض العجز بتقليصه للإنفاق على المشروعات الضخمة الجديدة، ثم حاولت إعادة الاستقرار للجنيه فرفعت أسعار الفائدة للجم جماح التضخم، وسمحت لقيمة العملة بالتعويم الحر، ما لم يدع مجالاً أمام اللاعبين في السوق السوداء بالتواجد.
إذا بدا ذلك سيراً على النهج التقليدي لإجماع واشنطن، فهو كذلك. يعود تنفيذ مصر للإصلاحات جزئياً إلى تلبية معايير الحصول على الدعم من أنصار إجماع واشنطن، ومن بينهم صندوق النقد والبنك الدوليان. وينطبق الأمر ذاته على كينيا والأرجنتين اللتين ازدادتا فاقة على نحو أكبر من البقية وفق عدة مقاييس. وبالنسبة للثانية، اضطرت بوينس آيرس إلى سداد أعلى علاوة على سنداتها، وواجهت أكبر خصم على عملتها في السوق السوداء.
ورداً على هذا، أصبحت الأرجنتين البلد الأكثر تنفيذاً للإصلاحات. وفي نوفمبر الفائت، انتخبت البلاد رئيساً جديداً، خافيير ميلي، الشعبوي الذي تعهد بحمل «منشار» في وجه الخلل الذي تعانيه البلاد. واتخذ ميلي قراراً بخفض قيمة البيسو بأكثر من النصف، وخفض عدد وزارات بلاده بالنصف لتصبح تسع وزارات، وقلّل من الأجور الحكومية وذهب إلى التخلص من الطائرات الخاصة ومزايا أخرى للمسؤولين، فيما باع المئات من الشركات المملوكة للدولة. وفي يناير، سجّلت الموازنة فائضاً في دولة لطالما كانت تعاني عجزاً في الأعوام منذ 1900 باستثناء 10 أعوام.
أمّا الحالات التي لم تسعَ للحصول على إعانات دولية، مثل تركيا ونيجيريا، فقد اضطرت إلى إعادة النظر في الأمر. وبالنسبة لتركيا تحت قيادة رجب طيب إردوغان، التي استُبعِد ذات مرة إجراؤها للإصلاحات، فقد عيّنت مسؤولين تكنوقراطاً جادين رفعوا الفائدة بأكثر من 35 نقطة مئوية، كما يعملون على كبح جماح النمو المفرط للائتمان.
والآن، ها قد عاد رأس المال إلى التدفق للدول الخمس. وبالنسبة لها، يتسم الاستثمار الأجنبي المباشر بالمرونة على نحو غير اعتيادي، رغم كونه آخذاً في الضعف حول العالم. وتراجعت العلاوات على السندات بنسبة 40% على الأقل من ذروتها. وحققت الأسهم الأرجنتينية مكاسب حادة تحسّباً لرئاسة ميلي، وتصاعدت 60% إضافية من حيث القيمة الدولارية منذ تسلمه زمام الحكم. واختفى الخصم على العملة في السوق السوداء بنيجيريا، وكاد أن يختفي في مصر. تبدأ الحياة المالية إذن في أن تبدو طبيعية.
لا يقطع هذا بمستقبل براق مع ذلك. عادة ما تنفذ الدول الإصلاحات ثم تعود إلى ما كانت تفعله من قبل بمجرد انتهاء العاصفة. يتطلب الخروج من هذه الدائرة قيادة مدركة للحاجة إلى تفادي الانتكاسات، وأن تقطع على نفسها التزامات بالمضي قدماً في طريق الإصلاح. الوقت مبكر للغاية للقول إن بلداً من هذه المتعافية يسير في الاتجاه الصحيح، لكنه في طور الإصلاح حالياً، ما يجعل الاقتصاد العالمي يبدو أقل هشاشة.
*الكاتب هو رئيس «روكفيلر إنترناشونال»