الذكاء الاصطناعي: لعبة الكبار بأرقام تريليونية
(النهار)-16/09/2025
*شربل باسيل
يقدّم مؤشر Country Activity Tracker (CAT): Artificial Intelligence نظرة شاملة على أنشطة الدول في قطاع الذكاء الاصطناعي، ويغطي مجالات البحث، وبراءات الاختراع، واستثمارات القطاع الخاص. يشمل المؤشر 201 دولة، ويوثّق أكثر من 25,000 شركة تعمل في الذكاء الاصطناعي، و138,000 صفقة تمويل تمت بين عامي 2014 و2024، بإجمال استثمارات تُقدَّر بـ 1.26 تريليون دولار.
تتصدر الولايات المتحدة الأميركية هذا السباق، إذ تحتضن 42٪من شركات الذكاء الاصطناعي في العالم، وتستحوذ على 764مليار دولار من الاستثمارات، أي ما يعادل 61٪ من إجمال الاستثمار العالمي في الذكاء الاصطناعي . وتليها الصين (97 مليارات دولار)، ثم الهند (57 مليار دولار). وتشكل هذه الدول 73% من إجمال الاستثمار العالمي في هذا القطاع. عند إضافة دول أخرى مثل المملكة المتحدة، فرنسا، ألمانيا، السويد، إسرائيل، كندا، والمملكة العربية السعودية، ترتفع هذه الحصة إلى نحو 90٪. تتصدر السعودية المشهد في العالم العربي باستثمارات تبلغ 19.3 مليار دولار و98 شركة، تليها الإمارات بـ 3.7 مليارات دولار و105 شركات.
نمط التمويل يختلف بين هذه الدول؛ ففي الولايات المتحدة الأميركية، الصين، والسعودية، يعتمد نمو الذكاء الاصطناعي بشكل كبير على رأس المال المحلي، بحيث بلغت الاستثمارات المحلية في هذه الدول 614 مليار دولار، 78 مليار دولار، و16.9 مليار دولار على التوالي. أما في دول مثل الهند، كندا، إسرائيل، وبعض الدول الأوروبية، فإن التمويل الخارجي هو المحرك الأساسي للنمو.
تلعب الولايات المتحدة الأميركية الدور المركزي في تمويل الذكاء الاصطناعي عالمياً. ففي المرحلة بين عامي 2014 و2024، كانت أميركا أكبر مصدر وأكبر مستقبِل للاستثمارات العابرة للحدود، بحيث ضخت 96.1 مليار دولار كمصدر، واستقبلت 149.5 مليار دولار. بالنسبة لمعظم الدول الرائدة (باستثناء السويد والمملكة العربية السعودية)، تعتبر الولايات المتحدة المصدر الأول للتمويل الأجنبي في مجال الذكاء الاصطناعي.
أبرز الدول التي استفادت من التمويل الأميركي هي الهند وإسرائيل. فقد بلغ الاستثمار الأميركي بين 2014 و 2024 في الهند 27.5 مليار دولار، أي ضعف ما تم ضخه محلياً. أما في إسرائيل، فقد ساهمت الولايات المتحدة بأموال تفوق التمويل المحلي بنحو مرة ونصف مرة. ويتركز هذا الاستثمار بشكل خاص في شركات تعمل في مجالات “البيانات والتحليلات” و”التطبيقات العامة للذكاء الاصطناعي”. يعكس هذا التوجه عمق العلاقات الاقتصادية، التكنولوجية والاستراتيجية بين هذه العواصم الثلاث.
ماذا يعني كل هذا؟
أولاً، لايزال الاستثمار في الذكاء الاصطناعي متمركزاً في عدد محدود من الدول، وتُشكل الولايات المتحدة المحور الأساسي لهذا التمويل. ونتيجة لذلك، فإن الابتكار العالمي يتدفق عبر عدد قليل من الممرات الرأسمالية. أما الدول الساعية إلى تنمية أنظمتها البيئية للذكاء الاصطناعي، فعليها أن تركّز على تعزيز قدراتها المحلية، وفي الوقت نفسه بناء شراكات استراتيجية مع مستثمرين دوليين رئيسيين بدلاً من السعي وراء تمويل متنوع من دون جدوى.
ثانياً، هذا التمركز العالمي ينطوي على مخاطر. إذ إن نحو 90٪ من الاستثمارات متركزة في عشر دول فقط، ما يعني أن بقية الدول مهددة بالتخلف عن قافلة التطور. ومن دون الوصول إلى التمويل أو البنية التحتية أو الكفاءات، قد تعتمد الدول النامية على تقنيات أجنبية، مما يعزز التفاوت العالمي ويحد من قدرتها على المنافسة في قطاعات حيوية مثل التعليم، الصحة، والزراعة.
ثالثا، لا تقتصر هيمنة الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تمتد إلى بُعد استراتيجي. فمن خلال تحكمها بالتمويل، والمنصات، والبنية التحتية، تساهم أميركا في صوغ معايير الذكاء الاصطناعي عالمياً. هذا الدور يعزز نفوذها الجيو-سياسي، لكنه في الوقت ذاته قد يثير ردود فعل من قوى أخرى. فقد بدأت أوروبا بالدفع نحو تنظيم أكثر صرامة، بينما تسعى الصين جاهدة الى بناء منظومتها الذاتية. وهكذا، يصبح مستقبل الذكاء الاصطناعي معلقاً بين التعاون الدولي والاستقطاب الجيو-سياسي.
أخيراً، تُظهر الصين تقدماً ملحوظاً في الجوانب غير التمويلية من سباق الذكاء الاصطناعي. إذ إن عدد الأبحاث المنشورة حول الذكاء الاصطناعي من باحثين صينيين يفوق نظيره الأميركي بنسبة مرة ونصف مرة، كما أن عدد براءات الاختراع الممنوحة في الصين يفوق تلك الممنوحة في الولايات المتحدة بثلاثة أضعاف تقريباً. إذا استمر هذا الزخم البحثي والتقني، فقد يشكّل ذلك نقطة تحول تهدد بتقويض الهيمنة الأميركية الحالية على مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي.
*أستاذ مشارك في الاقتصاد، جامعة قطر