الركود المؤجَّل: لماذا لا نشعر بالتحسّن رغم تراجع التضخم؟
(النهار)-28/07/2025
*فرح مراد
لأشهر طويلة، عشنا في ظلّ سؤال واحد: هل سيقع الركود؟
كانت التوقعات قاتمة، والنقاشات محتدمة في دور الفائدة ومستوياتها. لكن الركود لم يحدث. لا أزمة مالية، لا انهيار في سوق العمل، ولا موجة إفلاسات.
لم يأتِ الركود الذي حذّر منه الجميع. الأرقام تقول إن التضخم يتراجع، والبطالة مستقرة، والنمو، ولو هامشياً، ما زال قائماً. لكن في الحياة اليومية، قوة المستهلك لم تعد كما كانت.
بين أرقام مطمئنة واستهلاك متحفّظ
في منطقة اليورو، عاد التضخم إلى 2% في حزيران/يونيو، وهو المستوى الذي يستهدفه البنك المركزي الأوروبي. في الولايات المتحدة، يتأرجح التضخم حول 2%–2.7% تبعاً للمقياس، فيما بقيت البطالة عند 4.1% في حزيران. هذه مؤشرات “جيدة” بمعايير ما بعد الجائحة. لكن مبيعات التجزئة في أوروبا انكمشت 0.7% في أيار/مايو على أساس شهري، ومؤشر ثقة المستهلك الأميركي ارتفع قليلًا لكنه لايزال أدنى كثيراً من متوسطاته التاريخية. الأرقام الرسمية تتحسن… إلا أن المزاج الاستهلاكي لا يواكبها.
سيولة تطارد الأصول… لا الجيوب
شهدنا عودة السيولة إلى الأسواق المالية: الأسهم عند قمم جديدة، فوارق العوائد تضيق، والتمويل متاح للشركات الكبرى. في المقابل، شروط الائتمان على بطاقات المستهلك والقروض العقارية والتجارية الصغيرة بقيت أكثر تشدداً، ما يجعل “السيولة” محسوسة في الأصول أكثر من كونها محسوسة في الحياة اليومية. هذا الانفصال يفسّر لماذا يشعر كثيرون أن السياسة النقدية نجحت في تهدئة التقلبات، لا في تحريك الطلب الحقيقي.
البنوك المركزية: من إدارة الأخطار إلى إدارة التوقعات
الاحتياطي الفيدرالي أبقى الفائدة في نطاق 4.25%–4.50% في تموز/يوليو، مع احتمال خفض لاحق هذا العام، لكن القرار أصبح مسألة “توقيت” أكثر من كونه تحولًا في الاتجاه. في المقابل، أوقف البنك المركزي الأوروبي سلسلة خفوضات بعد أن خفّض ثماني مرات منذ 2024، مفضّلًا “الترقّب” بعدما عاد التضخم إلى الهدف. كلاهما الآن يشتغل على إدارة التوقعات لا إطلاق موجات جديدة من النمو.
نمو بلا زخم كافٍ
القطاع الخاص في أوروبا يظهر تعافياً هشاً: مؤشر الـPMI المركّب عند حدود 50–51؛ لا انكماش، ولكن لا توسّع حقيقياً أيضاً. في الولايات المتحدة، التوظيف “قوي” وتاريخيّاً جيد، لكن الاستثمار الرأسمالي خارج قطاعات التكنولوجيا الفائقة يتباطأ. التوازن الحالي أشبه بـ”وضعية انتظار طويلة” أكثر من كونه انطلاقة جديدة.
لماذا يُستنزف المستهلك حتى من دون ركود؟
للاستنزاف أسباب عدّة منها:
• سقف أسعار جديد: حتى مع تراجع التضخم، كثير من الأسعار لم يعد إلى مستويات 2021–2022.
• الإيجارات والخدمات: ظلّت مرتفعة، بخاصة في المدن الكبرى.
• تعب القرار: سنتان من “توقع الأسوأ” خلقتا سلوكاً دفاعياً؛ الشركات راكمت العمال بدلاً من التوسع، والأفراد ادّخروا من باب الحذر لا من باب الفائض.
“عاصفة وهمية” تركت أثرها بهدوء
لا يمكن لفائدة أقل وحدها أن تُعيد الثقة وتُخفض تكلفة السكن والطاقة أو تُحفّز الاستثمار المنتج. ما نراه اليوم يُعيد طرح السؤال: هل انتهت صلاحية “الفائدة” باعتبارها الأداة الأقوى للصدمات الكبرى؟ الجواب ليس إلغاء دور البنوك المركزية، بل ربطها بسياسات مالية واقتصادية تستهدف قوة الشراء والاستثمار الحقيقي: حوافز للـمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إصلاحات سوق الإسكان، وتمويل إنتاجي وليس مضاربياً فقط.
“نجونا”… لكن بأي نوع من الحياة الاقتصادية؟
الركود لم يحدث، وهذه نتيجة لا يُستهان بها. لكن “الركود الذي لم يحدث” ترك وراءه تعباً مالياً واجتماعياً: قرارات مُجمدة، سيولة محصورة في الأعلى، وفجوة متنامية بين نمو يُقاس على الورق وقوة استهلاك تُختبر في المتجر والبيت. المطلوب ليس مزيداً من الخفوضات بقدر ما هو إعادة توجيه السيولة نحو الاقتصاد الحقيقي، حتى يعود النمو رقماً… ويعود المستهلك شريكاً فيه، لا مجرد متفرّج عليه.
* محللة للأسواق في مجموعة IG