الركود يضرب قطاعات واسعة من الاقتصاد الأمريكي
(اخبار الخليج)-09/09/2025
تيج باريخ
ما الركود؟
تتمثل الإجابة الشهيرة والمفرطة في التبسيط، في تسجيل ربعين متعاقبين من النمو الاقتصادي السلبي. لكن يوجد لدى الولايات المتحدة نهج أكثر دقة، يحدده الخبراء لدى المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية. تذهب المؤسسة إلى أن: «الركود ينطوي على انخفاض بالغ في النشاط الاقتصادي، ومنتشر عبر القطاعات الاقتصادية، ويدوم لأكثر من بضعة أشهر».
وقد نما الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في الربع الثاني من العام الجاري، بعد انكماشه في الربع الأول، ما يعني أن البلاد تفادت الوقوع في براثن الركود، وفق التعريف الأساسي. ويُعد هذا النهج صحيحاً، عندما نضع في الاعتبار المعيار الأوسع للمكتب الوطني للبحوث الاقتصادية. وبغض النظر عن ماهية التعريف والجدل حوله، من المهم تسليط الضوء على السبب وراء كون توصيف الركود ليس ذا أهمية على وجه الخصوص، لا سيما حينما يتعلق الأمر بأكبر اقتصاد في العالم.
وعند النظر إلى المؤشرات الستة الأساسية التي يستخدمها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في تحديد بداية الركود الاقتصادي، فقد سجلت هذه المؤشرات الستة كلها مستويات في المنطقة الانكماشية، أو بالقرب منها، في مايو الماضي على أساس شهري. بل وخلال الأشهر الأخيرة، ظلت هذه المؤشرات الستة في حالة ضعيفة، لكن ربما لم تكن سيئة بما يكفي، بحيث تنطبق عليها معايير المكتب الوطني.
ومع ذلك، أشار باسكال ميكايلات أستاذ الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في سانتا كروز، إلى وجهي قصور رئيسين في الاعتماد على النهج الذي تتبعه المؤسسة البحثية. وقال: «يوجه هذا النهج تركيزاً ضئيلاً للغاية للبطالة ومعدلات الوظائف الشاغرة». ولأنه ينتظر صدور البيانات والمراجعات، فإن حالات الركود غالباً ما تُعلن بعد مضي عدة أشهر من بدايتها.
ولدى استخدامه خوارزمية للتعرّف إلى الركود في الوقت الفعلي، تم تدريبها على بيانات لسوق العمل الأوسع نطاقاً عبر قرن، تشير تقديرات ميكايلات، وهو أيضاً باحث مشارك في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية، إلى احتمالية بنسبة 71 % بأن الاقتصاد الأمريكي كان بالفعل في ركود خلال شهر مايو.
وقال في هذا السياق: «بينما قد تبدو البيانات الأخرى للمكتب القومي مفيدة، إلا أن حالة سوق العمل تعكس واقعاً أكثر أهمية. ومن وجهة نظري، فإن انخفاض الوظائف الشاغرة، وارتفاع معدل البطالة، يُعد مؤشراً أكثر موثوقية للضائقة الاقتصادية واسعة النطاق». ومن الجدير بالذكر، أن عدد الباحثين عن وظائف في شهر يوليو، قد فاق عدد الوظائف المُتاحة للمرة الأولى منذ عام 2021.
ويتفق العديد من الأمريكيين مع التقييم الذي وصل إليه ميكايلات. ففي استطلاع رأي أجرته مجلة «إيكونوميست»، بالاشتراك مع «يو غوف»، في أوائل أغسطس الماضي، أفاد قرابة نصف المستجيبين إلى أن الاقتصاد الأمريكي «يزداد سوءاً»، فيما عبّر ما يقرب من ثلث المشاركين عن اعتقادهم أن الولايات المتحدة تمر بركود بالفعل، بينما لم تكن نسبة 28 % من الذين شملهم الاستطلاع على يقين.
ومن الواضح أن المهمة التي تواجه المكتب الوطني شاقة، ناهيك عن أنها محفوفة بالتعقيدات المتعلقة بالبيانات. وعموماً، فإن توصيف الركود ليس مفيداً إلى هذه الدرجة. فبالنسبة لاقتصاد بحجم الاقتصاد الأمريكي، وهو أكبر من بقية بلدان مجموعة السبع مجتمعة، على أساس تعادل القوة الشرائية، ربما يواجه العديد من الولايات والقطاعات والأسر الركود، بينما تعزز التوسّعات في نواحٍ أخرى النشاط الإجمالي. لذلك، ثمة سؤال أكثر إفادة ينبغي علينا أن نطرحه: ما الذي يُبقي على صمود الولايات المتحدة، رغم الضعف البادي للعديد من المؤشرات على المستوى الوطني؟.
إن المرونة الاقتصادية خلال الولاية الثانية للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، حتى الآن، تنبع إلى حد كبير من أربعة مصادر محدودة، وهي الأداء الذي تحققه حفنة من الولايات، والذكاء الاصطناعي، والرعاية الصحية، والأثرياء.
وعند استخدامه منهجية مماثلة لتلك التي يستخدمها المكتب الوطني، توصّل مارك زاندي كبير خبراء الاقتصاد لدى «موديز أنالتكس»، إلى أن عدداً من الولايات الأمريكية التي تشكّل ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، إما أنها في ركود، أو تواجه خطراً عالياً بالوقوع فيه. وأوضح قائلاً: «تنتشر الولايات التي تمر بركود في أرباع البلاد».
ويشمل هذا وسط غرب الولايات المتحدة، وأجزاء من حزام الصدأ، فيما لا تزال كاليفورنيا، وتكساس، ونيويورك صامدة، وهي التي تشكّل ما يقرب من ثلث الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، ويُعد استقرارها ضرورياً للاقتصاد الوطني لتفادي الركود.
كذلك، فإن التوزيع الجغرافي للصناعات، يُعد عاملاً مهماً في تحديد شكل أداء مُختلف المناطق الأمريكية. ووجدت حسابات زاندي أن قطاعات الزراعة، والتصنيع، والتشييد، تمر بركود، ما يلقي بظلاله على الولايات الريفية وتلك الصناعية. وتُعد هذه قطاعات منتجة للبضائع، ومن المُرجح أن تكون متأثرة بالتعريفات الجمركية التي فرضها ترامب، وكذلك بالتدابير المضادة التي اتخذها الشركاء التجاريين.
كما أن التراجع الذي أصاب القطاع الفيدرالي الحكومي، المرتبط بتخفيضات الإنفاق التي أقرتها الإدارة، قد دفع بواشنطن العاصمة إلى التباطؤ. وأضاف زاندي: «تتوسّع قطاعات الرعاية الصحية، والتكنولوجيا، والعقارات، بينما تحافظ الخدمات المالية، والتجزئة، والضيافة، على استقرارها».
من ناحية أخرى، تقدم طفرة الذكاء الاصطناعي منافع واضحة لولايات وصناعات بعينها. وفي هذا السياق، يقول مارك مورو الزميل في معهد «بروكينغز»: «يُعد الذكاء الاصطناعي تكنولوجيا للمكاتب في المدن الكبيرة بالأساس.
وتوجد أغلب الوجوه البارزة وأهم المراكز الخاصة به في المدن الساحلية بولاية كاليفورنيا، ومدن الأعمال في تكساس، وكذلك الممر الذي يمتد من بوسطن إلى واشنطن». وأضاف: «يشهد بناء مراكز البيانات تصاعداً هو الآخر في أنحاء الولايات المتحدة، لكن ذلك يؤدي فقط إلى طفرة قصيرة الأجل في نشاط التشييد».
وتشير تقديرات «بانثيون ماكرو إكونوميكس»، إلى أن الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، ربما كان لينمو بنسبة 0.6 % على أساس سنوي فقط خلال النصف الأول من العام الجاري، لولا الإنفاق المرتبط بالذكاء الاصطناعي، أو ربما نصف المعدل الفعلي.
وبخلاف الطفرة في الإنفاق ذي الصلة بالذكاء الاصطناعي، فقد بدأ الاستثمار الخاص في قطاعات أخرى بالاقتصاد الأمريكي في الانكماش هذا العام، تحت وطأة أسعار الفائدة الأعلى وعدم اليقين.
وارتفع إجمالي الاستثمار الثابت الخاص بقرابة 3 % على أساس سنوي في الربع الثاني من العام، لكن «بانثيون ماكرو إكونوميكس»، لفتت في مذكرة بحثية نشرتها مؤخراً، إلى أن هذا الاستثمار كان لينخفض بحوالي 1.5 %، عند استثناء المكونات ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي. ونما المعدل السنوي لبناء مراكز البيانات خلال الفترة الثانية لترامب، بينما تراجعت أعمال البناء السكنية والتصنيعية والتجارية.
وبحسب ما يشير إليه البحث الذي أجراه زاندي، فإن قطاع الرعاية الصحية يدفع بالاقتصاد هو أيضاً إلى الأمام. وكان تقرير الوظائف غير الزراعية الأمريكية، الذي صدر الجمعة، وأظهر إضافة الاقتصاد 22,000 وظيفة فقط خلال أغسطس، ليكون سلبياً، لولا هذا القطاع. فقد شهدت الفترة الثانية لحكم ترامب إضافة 598,000 وظيفة، وتشكّل الوظائف في قطاع الرعاية الصحية ووظائف المساعدة الاجتماعية 515,000 من هذه الوظائف، أي ما يصل إلى نسبة 86 % من الوظائف التي أضافها الاقتصاد.
ومنذ أبريل الماضي، انخفض مؤشر انتشار الوظائف بالقطاع الخاص التابع لمكتب إحصاءات العمل دون 50 نقطة، ما يسلّط الضوء على خسارة المزيد من القطاعات للوظائف، مقارنة بتلك التي تضيفها، ويُعد هذا نادر الحدوث خارج فترات الركود.
ولا تُعد الوظائف في قطاع الرعاية الصحية مؤشراً على ازدهاره، بل مؤشر على انتشار المرض. ولا شك أن إنفاق الأسر على الرعاية الصحية، الذي شكّل 12 % من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في العام الماضي، حال دون تسجيل معدل النمو السنوي للإنفاق الاستهلاكي الحقيقي مستويات سالبة في الربع الأول.
وعلى نطاق أوسع، فقد تباطأ الإنفاق الاستهلاكي الحقيقي، الذي يمثل حوالي ثلثي الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي السنوي، هذا العام. وبخلاف الإنفاق على الرعاية الصحية، يشي مؤشر صحة المستهلكين الجديد، الذي تعتمده «مورنينغ كونسلت»، والذي يجمع بين ديناميكيات سوق العمل، ومعنويات المستهلكين، لتوفير مقياس بشأن الإنفاق على المدى القصير، بأن الأسر ذات الدخل المرتفع كانت تقود الإنفاق، بينما تراجع طلب الشرائح الأقل دخلاً.
يعكس هذا الأمر جزئياً، التأثّر الأكبر للأسر الأقل دخلاً بالفائدة المرتفعة والقطاعات بطيئة النمو. وقد ذهبت المكاسب التي حققتها سوق الأسهم الأمريكية، وهي مرتبطة بفورة الذكاء الاصطناعي، في غالبيتها إلى الأفراد الأكثر ثراء.
ويرى برنارد ياروس كبير خبراء الاقتصاد الأمريكيين لدى «أوكسفورد إكونوميكس»: «ستتحوّل تأثيرات الثروة من كونها عبئاً على الاستهلاك في أعقاب يوم التحرير الذي شهد إعلان التعريفات الجمركية، إلى عامل محفّز، مع اقتراب مؤشر إس آند بي 500 من أعلى مستوياته على الإطلاق». وأضاف: «ستستفيد الأسر عالية الدخل والثرية من هذا التأثير الإيجابي في الثروة المالية».
وهكذا، فسواء أعلن المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية دخول الولايات المتحدة في ركود من عدمه، لم يكن ذلك إلا مسألة فنية في نهاية الأمر. ففي الوقت الراهن، تقوم مجموعة ضئيلة من محركات النمو المحدودة، بإعطاء دفعة لاقتصاد آخذ بالفعل في التباطؤ على نطاق أوسع. ويبرز هذا بقوة التنوع الاقتصادي للولايات المتحدة، وقدرتها على الصمود، لكنه يُظهر أيضاً أن غياب إعلان رسمي عن مرور البلاد بأسرها بركود، لا يعني أن أجزاء كبيرة من البلاد لا تشهد أوضاعاً شبيهة بالركود.