السياسات التجارية ليست الحل الوحيد لكل مشكلة اقتصادية
(البيان)-08/11/2024
*مينوش شفيق
تعد السياسات التجارية من أكثر المجالات التي تختلف فيها آراء العامة عن آراء الاقتصاديين. ففي الولايات المتحدة، تظهر استطلاعات الرأي باستمرار أن غالبية الناس يعتقدون أن السياسات الحمائية مفيدة، في حين أن قلة قليلة من الاقتصاديين يتفقون مع هذا الرأي.
لكن عندما تسأل الناس إذا كانوا مستعدين لدفع المزيد مقابل السلع والخدمات من أجل زيادة الإنتاج المحلي، يميل كثيرون إلى تغيير وجهة نظرهم.
يعد الرأي العام أحد الأسباب التي تدفع السياسيين أحياناً إلى اللجوء بسهولة وسرعة إلى فرض التعريفات الجمركية وغيرها من القيود التجارية كحلول سريعة لمشكلات متعددة.
لكن هناك سبباً آخر يدفعهم لذلك، وهو وجود بدائل أفضل بكثير من التعريفات الجمركية لتحقيق أهداف مثل زيادة فرص العمل، وتطوير الصناعات، وتحقيق نتائج أكثر عدلاً، وتعزيز الأمن القومي، إلا أن الترويج لهذه البدائل بين المصوتين غالباً ما يكون صعباً.
لذلك، يصبح من السهل انتقاء الخيارات التي تحقق مكاسب سياسية سريعة، لكنها قد تكون في النهاية غير فعالة، مثل فرض التعريفات الجمركية، وتقديم الدعم والإعانات الحكومية، وتوطين العقود العامة.
ويتبنى بعض مؤيدي القيود التجارية الحالية «نظرة صفرية» للعالم (أي أن ربح أحد الطرفين لابد أن يعني خسارة الآخر)، ويرفضون الحجج التقليدية حول فوائد التجارة التي طرحها ديفيد ريكاردو وآدم سميث.
ويتجاهل هؤلاء حقيقة أن النظام التجاري القائم على القواعد قد أسهم بشكل كبير في تحقيق الازدهار والحد من الفقر، خاصة في الدول النامية.
فمنذ عام 1990، أسهمت التجارة العالمية في زيادة الدخل العالمي بنسبة 24%، مع ذلك زيادة هائلة تصل إلى 50% في مكاسب أفقر 40% من سكان العالم.
وغالباً ما يركز مؤيدو القيود التجارية بشكل مفرط على العجز التجاري والصادرات الصناعية، مع أن العجز التجاري لا يمثل مشكلة إذا كان بالإمكان تمويله بطريقة مستدامة، وغالباً ما يكون نتيجة لاختلالات أخرى في الاقتصاد الكلي. كذلك، فإن الدولار المكتسب من الصادرات الصناعية لا يعد أفضل من الدولار المكتسب من الصادرات الخدمية.
والأكثر إثارة للاهتمام هم أولئك الذين يؤمنون بالانفتاح الاقتصادي، لكنهم يسعون إلى استخدام السياسة التجارية لتحقيق أهداف أخرى، مثل تعزيز القدرة التنافسية، وإعادة توزيع الدخل، والتخفيف من آثار تغير المناخ، أو تعزيز الأمن القومي.
رغم ذلك، تكون هناك في معظم الحالات، طرق أفضل لتحقيق هذه الأهداف الجديرة بالاهتمام من خلال أدوات غير السياسة التجارية.
ولننظر مثلاً إلى سياسات التصنيع، حيث تم فرض مجموعة قيود تجارية في الولايات المتحدة ودول أخرى على أمل تحقيق ميزة تنافسية في صناعات مثل السيارات الكهربائية والرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، مع العلم أن تاريخ هذه السياسات الصناعية طويل.
والنجاحات كانت أقل كثيراً من الإخفاقات، إلا أن النقطة الأهم هي أن هناك سياسات أكثر كفاءة ونجاحاً لبناء القدرة التنافسية، مثل تمويل الأبحاث والتطوير، وبناء قوى عاملة ماهرة، وتقديم حوافز للاستثمار.
إن استخدام السياسة التجارية كحل لمشكلة التفاوتات الإقليمية وعدم المساواة في الدخل تبقى أقل فعالية بكثير من بناء شبكة أمان اجتماعي مناسبة والاستثمار في المناطق المتراجعة وأفراد المجتمع.
والدول التي توفر شبكات أمان فعالة وسياسات تدعم تدريب العمال وإعادة تأهيلهم للتكيف مع التغيرات الاقتصادية، تشهد مستوى أقل من الحمائية مقارنة بالتي تسمح بتأثر السكان بالتحولات الاقتصادية العالمية.
ومن الممكن بناء شبكات أمان تعمل كـ«ترامبولين»، بحيث تمكن العمال من استعادة مكانتهم في السوق عبر دعم مبكر وشامل يحمي دخولهم ويوفر لهم فرص عمل جديدة.
وفيما يخص تسريع التقدم في معالجة تغير المناخ، يجدر ترداد مقولة إن الطريقة الأكثر كفاءة للقيام بذلك هي من خلال ضريبة الكربون مع دعم لحماية الفقراء. والواقع أن القيود التجارية، مثل متطلبات المكون المحلي أو التعريفات الجمركية، تجعل الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر أكثر تكلفة.
ويزعم البعض أن التكنولوجيا الخضراء الجديدة ستنشأ خلف الحواجز الحمائية. لكن الإعانات التي تستهدف البحث والتطوير ستؤدي إلى تحقيق ذلك بشكل أفضل.
وإذا كنا راغبين في معالجة التحدي العاجل المتمثل في تغير المناخ، فيجب علينا أن نركز على السياسات التي تجعل تحقيق خفض الانبعاثات أرخص وأسرع.
وبالمثل، فإن الأمن القومي يمكن خدمته بشكل أفضل عبر تنويع سلاسل التوريد. وعموماً، وبمعنى آخر، نحن بحاجة إلى مزيد من التجارة وليس العكس.