الندرة بين الاقتصاد التقليدي والعملات الرقمية في عصر الأصول المبرمجة
(العربية)-08/07/2025
م. عبدالله عودة الغبين
شكل الندرة العمود الفقري للنظرية الاقتصادية، فهي تعكس التناقض الأزلي بين موارد محدودة ورغبات إنسانية غير متناهية. هذا التباين يدفع الأفراد والدول إلى مواجهة خيارات صعبة، حيث يصبح كل قرار اقتصادي محكوماً بتكلفة بديلة تُضحّى بها. في العالم المادي، تتجسد الندرة في موارد مثل النفط الذي تقدر احتياطياته العالمية بنحو 1.7 تريليون برميل، أو الذهب الذي يُستخرج منه سنوياً حوالي 3,000 طن بينما يبلغ إجمالي المخزون فوق الأرض 208,874 طناً فقط وفقاً لمجلس الذهب العالمي. هذه الموارد تُدار عبر آليات السوق والسياسات الحكومية، لكن المشهد يتغير جذرياً عندما ننتقل إلى العالم الرقمي، حيث تُخلق الندرة عبر أكواد برمجية لا ترحم.
العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين، أعادت تعريف مفهوم الندرة من خلال تحويله من ظاهرة طبيعية أو سياسية إلى معادلة خوارزمية. فبينما تعتمد النقود التقليدية على ندرة نسبية يتحكم فيها البشر (مثل قرارات البنوك المركزية بطباعة العملة)، تأتي العملات المشفرة بندرة مطلقة ومبرمجة مسبقاً. البيتكوين، التي وصلت قيمتها السوقية إلى 1.2 تريليون دولار في ذروتها عام 2021، تقدم نموذجاً صارخاً: فبروتوكولها يحدد سقفاً لا يتجاوز 21 مليون وحدة، مع تقليل إصدار العملات الجديدة بنسبة 50% كل أربع سنوات عبر آلية محددة ودقيقة . هذه القيود البرمجية تمنحها خصائص تشبه الذهب، لكن مع فارق جوهري: لا يمكن اكتشاف “مناجم رقمية” جديدة تزيد العرض، كما حدث عندما أدى اكتشاف الذهب في كاليفورنيا القرن التاسع عشر إلى تضخم مفاجئ في المعروض.
الندرة في الاقتصاد التقليدي تنشأ من عوامل خارجية مثل نضوب الموارد أو الصعوبات الجيوسياسية. النفط مثال حي: فوفقاً لوكالة الطاقة الدولية، انخفضت الاستثمارات العالمية في الاستكشاف بنسبة 30% بين 2014 و 2020، مما يهدد بندرة مستقبلية رغم الاحتياطيات الحالية. بالمقابل، الندرة في العملات الرقمية مصطنعة بالكامل، لكنها مع ذلك تخلق تأثيراً اقتصادياً حقيقياً. الإيثيريوم، التي تبلغ قيمتها السوقية 400 مليار دولار، طبقت في عام 2021 تحديثاً أحرق جزءاً من عرضها، مما قلص المعروض بنحو 3% سنوياً. هذه الآليات تثبت أن الندرة المصطنعة يمكن أن تكون أداة فعالة لخلق القيمة، حتى لو افتقرت إلى الأساس المادي.
المقارنة بين نوعي الندرة تكشف مفارقات عميقة. ففي حين تعتمد قيمة الذهب على ندرته الطبيعية وصعوبة استخراجه (حيث يتطلب إنتاج أونصة واحدة 38 ساعة عمل و1.5 طن من الخام)، فإن قيمة البيتكوين تستند إلى اتفاق جماعي على صحة خوارزميتها. الإحصاءات تظهر هذا الفرق جلياً: خلال أزمة كوفيد-19، ضخت البنوك المركزية 9 تريليونات دولار في الأسواق، مما خفض ندرة العملات التقليدية، بينما ظل معروض البيتكوين ثابتاً، مما ساهم في ارتفاع سعره من 5,000 إلى 60,000 دولار في عام واحد.
لكن المخاطر تظل قائمة. الندرة المصطنعة تعني أن القيمة مرتبطة بالإدراك أكثر من الارتباط بالواقع الملموس. انهيار عملة “تيرا” في مايو 2022، التي فقدت 99% من قيمتها (ما يعادل 45 مليار دولار) خلال أيام، يظهر هشاشة هذا النموذج عندما ينهار الإيمان بالندرة المفترضة. بالمقابل، العملات التقليدية، رغم مشاكل التضخم (الذي بلغ 9.1% في الولايات المتحدة عام 2022)، تحتفظ بقيمة أساسية لأنها مدعومة باقتصادات كاملة وقوة حكومات.
التطور الأخير في هذا الصراع بين الندرة الحقيقية والمصطنعة يأتي مع “الرموز غير القابلة للاستبدال” (NFTs). هذه الأصول الرقمية، التي حققت مبيعات بقيمة 25 مليار دولار في 2021، تبني قيمتها على ندرة مصطنعة مطلقة (كل NFT فريد)، لكنها تثير أسئلة عن معنى الندرة في عالم يمكن نسخ محتواه رقمياً بلا حدود. هنا تظهر مفارقة عصرنا: فبينما يعاني العالم من ندرة حقيقية في المياه (حيث يعيش 2.2 مليار شخص دون مياه نظيفة وفقاً للأمم المتحدة)، نرى استثمارات ضخمة في أصول رقمية ندرتها مُختَرَعة بالكامل.
في الختام، الثورة الرقمية لم تلغِ مفهوم الندرة الاقتصادية، لكنها أعادت صياغته بطريقة تتناسب مع العصر الافتراضي. إذا كانت الندرة التقليدية تُدار بالجيولوجيا والسياسة، فإن ندرة العملات المشفرة تُدار بالرياضيات والثقة الجماعية. السؤال الأكبر الآن هو: أي نموذج سيسود في المستقبل؟ الإجابة قد تحدد ليس فقط مصير الأسواق المالية، بل أيضاً شكل النظم الاقتصادية في العقود القادمة.