تأملات في المستقبل العربي
(الوفد)-19/06/2025
بقلم الدكتور أحمد المقرمد *
اليوم وأكثر من أي وقت مضى، سيستفيد العالم العربي من عودة أنبغ عقولِه لرسم مسار جديد لمستقبل زاهر للإقليم؛ ولتحقيق ذلك، أطلقت مؤسسة قطر مبادرة “رابطة العلماء العرب” بهدف إرساء الركائز الأساسية لمستقبل عربي مشرق. وتترأس المبادرة جامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع.
ويتمتع العالم العربي بتاريخ حافل بالإنجازات الأكاديمية في مجالات العلوم والطب وغيرها من التخصصات الأخرى، ابتداءً بمأثورات ابن الهيثم في علم البصريات والإدراك البصري، وحتى نيل العالم أحمد زويل جائزة نوبل، ليصبح أول مسلم ينال جائزة نوبل في الكيمياء. ولكن، وبالرغم من تطور مجال التعليم العالي والمجال العلمي في العالم العربي، إلا أن الكثيرين ما زالوا يرجّحون البحث عن فرص للعمل أو الدراسة خارج أوطانهم.
وكما وصف الدكتور إلياس زرهوني، أستاذ فخري في جامعة جونز هوبكنز وعضو في رابطة العلماء العرب منذ فترة طويلة، المنح العلمية على أنها غاية إنسانية عالمية تربط الحضارات ببعضها البعض عبر العصور.
وأضاف: “ولطالما حققت الحضارات التي ترحب وتدعم العلماء الدوليين مكاسبَ اجتماعية واقتصادية طائلة. فعلى مر العصور الوسطى، رحبت الدول الأوروبية بالعلوم والآداب العربية المأخوذة مباشرة من العلماء العرب، ومن ثم أضفت عليها لمساتها الخاصة على امتداد القرون”.
وتثير مسألة “هجرة العقول العلمية” العديد من المخاوف والتساؤلات، لما يترتب عليها من آثار فيما يتعلق بالتقدم الإقليمي وتطوره، إذ تنحصر فوائد ذلك بشكل حصري نسبياً على الدول التي بات يعتبرها بعض الأكاديميين العرب وطنهم الجديد. وفي ظل هذه المعطيات، تسعى رابطة العلماء العرب، كونها جزءاً من الحركة العالمية، لإعادة جذب المفكرين والمبدعين العرب إلى منطقتهم للمساهمة في تنميتها وتطويرها باستمرار.
مساور القلق
يسهل استيعاب الأسباب التي أدّت إلى ظهور هذه المخاوف والتساؤلات. فالتفحّص السريع لبعض الجامعات الرائدة في العالم سرعان ما يكشف عن وجود عدد كبير من الباحثين العرب في العديد من المجالات الأكاديمية والمبادرات البحثية خارج منطقة الشرق الأوسط. وبغضّ النظر عن أصولهم، فقد اتبع العديد منهم مساراً مهنياً مماثلاً، فهم غالباً ما يدرسون مرحلة البكالوريوس بجامعتهم المحلية، ومن ثم يسعون لمواصلة دراساتهم العليا في دول أخرى.
وفي حين أنه يصعب حصر الأعداد بدقة، إلا أنه بإمكاننا الجزم بأن الآلاف من الباحثين العرب يعملون حالياً في مؤسسات أكاديمية في قارتي أميركا الشمالية وأوروبا على وجه الخصوص.
وأشار الدكتور زرهوني إلى أن الولايات المتحدة قد استفادت كثيراً من ترحيبها بالعلماء من جميع أنحاء العالم للعمل في مؤسساتها، ويشمل ذلك عدداً كبيراً من العلماء العرب والمسلمين من دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط وبعض الدول الإسلامية الأخرى.
ووفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة الفنار للإعلام، وهي مؤسسة إخبارية مستقلة تركز بشكل خاص على مجال التعليم، فإن ذلك يرجع إلى عدة أسباب تنطوي على توفير فرص عمل ذات بنود وأحكام أفضل. فقد أظهر استبيان أجرته مؤسسة الفنار في عام 2019، أن أكثر من 90% من المشاركين في الاستطلاع يرغبون في الاغتراب والحصول على وظيفة دائمة هناك.
وتعكس المجريات الحالية المنطلق الذي بدأ به العديد من الباحثين رحلاتهم الأكاديمية، وتؤكّد على أهمية عكس هذه التوجّهات؛ وبغضّ النظر عن الأسباب التي أدّت إلى ظهورها، سواء كان ذلك بسبب التحديات الاقتصادية، أو النزاعات، أو المتطلبات التنموية، فإنه من الممكن أن يكون هؤلاء العلماء هم المفتاح السحري اللازم للتنمية في المنطقة.
وفي الوقت الذي نشهد فيه دماراً غير مسبوق في المنطقة، فضلاً عن استهداف للبنية التحتية الضرورية، وهدم للمنازل، وتعجيز لسبل العيش، وتعطيل للمؤسسات التعليمية، فإن هذا الأمر قد أحدث، مرة أخرى، واقعاً مريراً وسوداوياً لما قد يبدو عليه المستقبل.
وغالباً ما يتم الاعتراض على إعادة التعمير في مرحلة ما بعد النزاع في المناطق المتأثرة بالأزمات في العالم العربي، نظراً لنهجها الذي يعتمد على نموذج واحد يناسب الجميع وتطبيقه من قبل جهات خارجية دون مراعاة السياقات المحلية. ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الكوادر الطبية من أصول عربية المتطوعة حالياً في المنطقة، تسلّط الضوء على إمكانية اتباع أساليب تتوافق مع المتطلبات الإنسانية الحالية هناك. كما تعزز جهودهم الجبّارة قضية العودة القوية للخبرات والكفاءات العربية إلى المنطقة بشكل عام.
دقّت ساعة التغيير
فبالرغم من الحروب والنزاعات التي تعيق سير الجهود المبذولة لإعادة العقول المهاجرة للوطن العربي، إلا أن التحديات الحالية لن تدوم، ويتوقّع حلها عاجلاً أو آجلاً. وبغضّ النظر عن كل المصاعب والمحن السابقة، فإن العالم العربي لديه تاريخ راسخ في التعاون، والتآزر، والتكاتف في مختلف المجالات الثقافية والمجتمعية.
وبحلول عام 2006، جمعت مؤسسة قطر نخبة من العلماء العرب لتأسيس رابطة مميزة للبحث العلمي. وقد لعبت هذه الرابطة، التي عُرفت باسم “رابطة العلماء العرب”، دوراً حيوياً في تنمية القدرات والإمكانات البحثية في دولة قطر والمنطقة. كما قد مهدت هذه الرابطة تأسيس أول ثلاثة معاهد بحثية وطنية بدولة قطر، وساهمت في تطوير المؤسسات البحثية في قطر بشكل عام. ومع تألقها بإنجازاتها المستمرة، تطورت رابطة العلماء العرب المغتربين لتصبح “رابطة العلماء العرب” (AGS)، وهي رابطة تركز على الابتكار وتسعى لتعزيز العلاقات بين العلماء العرب والمعاهد والصناعات العربية، للارتقاء بالعلوم، والبحوث، والمشاريع، وتسخير القدرات والكفاءات في العالم العربي لأجل ازدهاره.
وتحتضن المدينة التعليمية في قطر بيئة تعليمية تنبض بالحياة، وتضم ثماني جامعات رائدة، وأحدث المرافق لتعزيز تطوير البحوث والتنمية والابتكار. كما تلعب المؤسسة دوراً هاماً في استضافة المؤتمرات والجلسات التعليمية، بهدف الاستفادة من الخبرات العربية المتنوعة. وساهم ذلك في دعم ازدهار دولة قطر لتصبح مركزاً عالمياً، ومَعلمًا للدبلوماسية الدولية والمؤتمرات والفعاليات الدولية. ويشمل ذلك فعاليات سنوية تعكس قدرة قطر على استضافة أبرز الأكاديميين والقادة لمناقشة القضايا الملحّة عالمياً. وعلاوة على ذلك، فإن السجل الدبلوماسي لدولة قطر، كجهة منظمة أو دولة وسيطة لعقد المفاوضات الحساسة، يُظهر النتائج الإيجابية التي قدمتها الدولة لحل العديد من الصراعات والنزاعات الدولية الحالية.
وفي حين أن تحديد نطاق فعالية الرابطة أمر ضروري لا بد منه، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يكون عائقاً أمام أي مبادرة تهدف لإحداث تأثير اجتماعي واقتصادي إيجابي من خلال الجهود التعاونية، انطلاقاً من الآثار المترتبة على التغير المناخي، وحتى تقنيات الصناعة 5.0 المتقدمة والواعدة، والتي سترسم آفاق بيئة العمل مستقبلاً. فنحن نعيش في عالم مليء بالتحديات المشتركة، التي تتطلب استجابة جماعية سريعة ومثمرة تفوق الحدود المكانية.
ولتحقيق هذه الغاية السامية، تتصدر رابطة العلماء العرب مبادرات إبرام شراكات قيمة من خلال توفير منصة موحدة لحثّ المبادرات المبنية على إبداعات وابتكارات العلماء العرب. كما يتجلى هذا الجهد العالمي في تأسيسها منصة رقمية، وهي عبارة عن بيئة تفاعلية تتيح لأعضاء الرابطة فرص التعاون وعقد الشراكات مع بعضهم البعض. وبإطلاق هذه المنصة، باتت رابطة العلماء العرب مركزاً معرفياً، تجتمع فيه الخبرات العربية لتخطي العقبات المرتبطة بالموقع الجغرافي.
الطريق نحو المستقبل
تُستخدم مقولة “التاريخ يعيد نفسه” بشكل مستمر لتفسير عودة العنف وعدم الاستقرار إلى المناطق المضطربة؛ ولكن، يجب استخدام هذا القول المأثور لوصف الأوقات الجميلة عوضاً عن ذلك، فعلى سبيل المثال، يجب استخدام المقولة للتحدث عن الفترة التي كان فيها العالم العربي مركزاً للتقدم الصناعي والعلوم.
ومن وجهة نظر الدكتور زرهوني، فإن رابطة العلماء العرب هي المبادرة المحورية لتعزيز ودعم تبادل الخبرات والعلوم بين العلماء العرب من جميع أنحاء العالم لبناء مستقبل مشرق.
إن جميع أفراد رابطة العلماء العرب يؤمنون إيماناً تاماً بأنه قد آن الأوان لإحداث نهضة علمية عربية تضاهي مجد أجدادنا، وينبغي أن تكون المنصة حلقة الوصل الرئيسية والدائمة بين العلماء العرب من جميع أنحاء العالم طوال هذه الرحلة الدؤوبة.
*المدير التنفيذي لمعهد قطر لبحوث الحوسبة التابع لجامعة حمد بن خليفة، عضو مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع