تعزيز المشهد المالي الرقمي وتطبيقات التعميم الوسيط رقم 735
(الجمهورية)-11/06/2025
البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ*
مع استمرار لبنان في مواجهة التحدّيات الاقتصادية والمالية الكبيرة، برزت الخدمات المالية الرقمية، لا سيّما المحافظ الإلكترونية، كأدوات حيَوية في تعزيز الشمول المالي، تسهيل المدفوعات الرقمية، وتحديث القطاع المصرفي المالي.
استجابةً للاعتماد المتزايد على المعاملات الرقمية، اتخذ مصرف لبنان تدابير تنظيمية جديدة هدفت إلى تعزيز الثقة والشفافية والنزاهة التشغيلية في منظومة المحافظ الإلكترونية. وقد صدر أخيراً التعميم الوسيط رقم 735 (القرار رقم 13718) بتاريخ 23 أيار 2025، ليُحدّد التعديلات الرئيسة على القرار الأساسي رقم 7548 (الصادر في 30 آذار 2000) الذي ينظّم العمليات المالية والمصرفية عبر الوسائل الإلكترونية.
يمثّل التعميم الوسيط رقم 735 علامة فارقة محوَرية في جهود لبنان لتنظيم وتطوير نظامه البيئي للتمويل الرقمي. فبدلاً من مجرّد سرد القواعد الجديدة، ينقل التعميم سرداً أوسع نطاقاً بضمان أن يتوافق الابتكار في مجال التمويل الرقمي مع المسؤولية والرقابة وحماية المستهلك.
فاليوم، يُطلب من المؤسسات المالية التي تدير المحافظ الإلكترونية أن تمتثل لخطّة عمل معتمدة في غضون 6 أشهر من الترخيص، مع وجود أحكام طوارئ تسمح بالتمديدات الاستثنائية، والاحتفاظ بحسابات ضمان منفصلة ومموّلة بالكامل في البنوك. كما يجب أن تكون هذه الحسابات قابلة للتتبّع، وأن تحتفظ باحتياطي بنسبة 100% مقابل جميع الأموال الإلكترونية المحتفظ بها. بالإضافة إلى فرض حدود للمعاملات والأرصدة، إذ يُسمح للمستخدمين الأفراد بحدّ أقصى 10,000 دولار أميركي في المعاملات الشهرية ويكون رصيد المحفظة 3,000 دولار أميركي. أمّا بالنسبة إلى المستخدمين من الشركات، ترتفع هذه الحدود إلى 50,000 دولار أميركي و30,000 دولار أميركي تباعاً.
بالإضافة إلى ما ذُكر، ستُطبَّق ضوابط متقدّمة على النظام لمنع أي محاولة لتجاوز الحدود التنظيمية، مع فرض عقوبات على التحايل. وإنشاء رقابة مستمرّة وتغطية تأمينية للحماية من الاحتيال، التهديدات الإلكترونية، وسوء السلوك التشغيلي، تقديم تأكيدات الدفع للفواتير، والرسوم إلى الوزارات أو المؤسسات العامة ذات الصلة في غضون 3 أيام عمل.
هكذا، صُمِّمت الإجراءات لغرس الثقة في قطاع المدفوعات الرقمية، وضمان حماية المستخدم مع تعزيز الاستقرار المالي الكلي. ومن المتوقّع أن يؤدّي الوضوح والصرامة التنظيميَّين اللذَين أدخلهما التعميم الوسيط رقم 735 إلى إيجاد أرضية خصبة لتوسيع نطاق الخدمات المالية الرقمية في لبنان.
من ناحية أخرى، تمتلك المحافظ الإلكترونية فُرَصاً عديدة منها الشمول المالي، إذ يمكن للمحافظ الإلكترونية أن تجلب متعاملين لا يملكون حسابات مصرفية – خصوصاً في المناطق الريفية – إلى النظام المالي الرسمي.
ومع تجاوز معدّل انتشار الهواتف المحمولة، فإنّ البنية التحتية موجودة بالفعل لتوسيع نطاق الوصول إلى الفئات المحرومة من الخدمات، وتخطّي ساعات الدوام والعطل الرسمية للجميع.
كذلك، المرونة في مواجهة الأزمات، ففي خضم التقلّبات المستمرّة في أسعار العملات، والقيود المفروضة على القطاع المصرفي، تُوفِّر المحافظ الإلكترونية أداة مرنة لإدارة الأموال وتحويلها، ممّا يجعلها عنصراً أساسياً في مسار لبنان نحو المرونة الاقتصادية.
بالإضافة إلى تسريع التكنولوجيا المالية، تضع متطلّبات التعميم حدوداً واضحة يمكن لشركات التكنولوجيا المالية العمل ضمنها، ممّا يُعزّز الابتكار، ويُشجّع الشركات الناشئة المحلية على تطوير منتجات مالية رقمية جديدة. من دون أن ننسى الرقمنة الحكومية، إذ يمكن أن يؤدّي دمج القطاع العام للمحافظ الإلكترونية إلى تعزيز الكفاءة في تحصيل الضرائب، الغرامات، ومدفوعات المرافق، مع تعزيز الشفافية والحدّ من البيروقراطية. كما يمكن للبنانيِّين الذين يعيشون في الخارج استخدام المحافظ الإلكترونية لتحويل الأموال إلى أفراد الأسرة أو الدفع مقابل الخدمات محلياً.
على رغم من هذه السبل الواعدة، فإنّ الطريق إلى اعتماد المحفظة الإلكترونية على نطاق واسع لا يخلو من العقبات. ولعلّ أهم التحدّيات الرئيسة تكمن في نقص الثقة، فبعد سنوات من سوء الإدارة المالية وفقدان المدّخرات في البنوك التقليدية، لا تزال ثقة المواطنين في أي أداة مالية – رقمية أو غير ذلك – هشة.
كما أنّ العبء التنظيمي لصغار مقدّمي الخدمات ذو تأثير ملموس، إذ لا تتمتّع جميع الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا المالية، أو مؤسسات الدفع الصغيرة بالقدرة على تلبية المتطلبات المالية للتعميم، مثل الاحتفاظ باحتياطيات سيولة بنسبة 100% والحصول على تغطية تأمينية دولية.
بالإضافة إلى ما ذُكر، تبرز أخطار الأمن السيبراني مع زيادة المعاملات الرقمية، فيجب على المؤسسات الاستثمار في البنية التحتية للأمن السيبراني، وتثقيف المستخدمين، فلا ننسى أهمّية محو الأمية الرقمية، إذ تفتقر شريحة من اللبنانيِّين – ولا سيّما كبار السنّ وذوي التعليم المحدود – إلى المهارات اللازمة لاستخدام تطبيقات المحفظة الإلكترونية، ممّا يُثير المخاوف بشأن الإقصاء الرقمي.
في نهاية المطاف، لا يمكن للمحافظ الإلكترونية أن تحلّ مكان البنوك التقليدية، لكنّها يمكن أن تكمّلها بشكل كبير. ففي حين أنّ المحافظ الإلكترونية توفّر بديلاً مناسباً للمعاملات الروتينية والخدمات المالية الأساسية، إلّا أنّها ليست في وضع يسمح لها أن تستبدل البنوك التقليدية بشكل كامل. فالبنوك لا تزال تهَيمن على مجالات مثل الإقراض، إدارة الاستثمار، وصرف العملات.
والأهم من ذلك، يُعرِّف التعميم الوسيط رقم 735 المحافظ الإلكترونية على أنّها أدوات «تيسير دفع»، وليست بدائل مصرفية. وتُقيَّد وظائفها بشكل متعمّد للتخفيف من المخاطر النظامية، وحماية المستخدمين من التعرّض المفرط.
ومع ذلك، قد يتلاشى الخطّ الفاصل بين البنوك وشركات التكنولوجيا المالية في السنوات المقبلة. فمع نضوج منصات المحفظة الإلكترونية وتنوّع احتياجات العملاء، يمكن أن تتطوّر الشراكات مع البنوك إلى أنظمة خدمات رقمية بالكامل. وعلاوة على ما ذُكر، قد يشهد لبنان ظهور بنوك جديدة مرخّصة – وهي كيانات تجمع بين مرونة التكنولوجيا المالية والوظائف الكاملة للخدمات المصرفية التقليدية تحت سقف رقمي واحد، إذا تحسّنت الثقة في النظام.
ختاماً، يُعتبر التعميم الوسيط رقم 735 مبادرة تاريخية ترسم الخطوط العريضة لمستقبل لبنان المالي الرقمي. وفي حين أنّه يُقدِّم معايير صارمة، فإنّه يفتح أيضاً عالماً من الإمكانيّات للنموّ الشامل، الابتكار، والتعاون بين القطاعَين العام والخاص.
هكذا نرى، أنّ المحافظ الإلكترونية لا تهدف إلى استبدال النظام المصرفي، بل إلى تحويل كيفية تقديم الخدمات المالية والوصول إليها. وفي بلد يتوق إلى التحديث والإنصاف، تعمل هذه المحافظ الإلكترونية كمحفّزات لإعادة بناء الثقة، وإتاحة السهولة والراحة، ودفع عجلة التمكين الماليّ المستدام.
*بروفيسور في جامعة القدّيس يوسف ببيروت، رئيسة مؤسِّسة لجمعيّة التميّز للأبحاث المبتكرة والاستدامة والتنمية الاقتصاديّة “AXISSED”