عن تسوية الملعب الدولي: قمة المستقبل
(العربية)-20/09/2024
*د. محمود محيي الدين
بدأ توافد ممثلي الدول استعداداً للاجتماعات التي يشارك فيها القادة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، ومن أهم الأمور التي ستتم مناقشتها محاور قمة المستقبل التي خصصت لإعادة إحياء النظام الدولي متعدد الأطراف. وأعتبر هذه المبادرة فرصة لاستعادة الثقة في إمكانية التعاون الدولي ومؤسساته للتصدي للتحديات التي تواجه العالم. وأكرر ما ذكرته تعقيباً على مقولة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، صاحب مبادرة الدعوة لانعقاد قمة المستقبل، بأن العالم يعاني من «عجز في الثقة» بأنَّ المقابل لهذا العجز هو ما نعانيه من فائض في الأزمات.
وقد تطرقت من قبل إلى ما تسبب فيه الرُّعن الحمقى ممن تصدروا المشهد السياسي في كوارث أمنية وإنسانية ومناخية يعاني منها العالم، وما جناه سفهاء تصدوا لإدارة الاقتصاد وشؤون التنمية، فما خلفوا وراءهم إلا أزمات الاستدانة والغلاء والبطالة والفقر. هذا كله يجري في عالم لا تنقصه الموارد أو الثروات، ولكنه يفتقر إلى قيادات تستنقذه مما اعتراه من بؤس، وما يكتنف الشباب في بلدان شتى من يأس.
تتطلب محاولة إعادة إحياء نظام التعاون الدولي تجديداً لمؤسساته المعنية بالسلم والأمن والتمويل والتنمية، أن تكون معبرة عن التغيرات في أوزان القوى حول العالم، وأفضل تمثيلاً لتطلعات الشعوب وحكوماتهم، وأكثر فاعلية من حيث التمويل والموارد وكفاءة استخدامها، وأمهر قدرة في المشاركات مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني. يقتضي هذا التمرد على حالة الاكتفاء بالحد الأدنى والإبقاء على أوضاع بالية بحكم الاعتياد، إلى ما يتناسب مع عالم جديد شديد الاختلاف عن عالم رسمته حينها تداعيات الحرب العالمية الثانية. تلك الحرب التي لم يكتفِ المنتصرون فيها بكتابة التاريخ، وهو المكسب المعتاد للمنتصر، ولكنهم وضعوا قواعد عمل لمستقبل ما بعد الحرب بمواثيق واتفاقات وأعراف ألزمت مؤسسات العمل الدولي بالعمل في نطاقها، دون تغيير ملموس يواكب ما طرأ على العالم من تغيرات منذ أربعينات القرن الماضي. وها هو العالم يتجاوز 80 عاماً من بداية تأسيس هذه المنظمات الدولية ليتم مائة عام في عام 2044، بقواعد عمل وأوزان متباينة وحقوق متفاوتة لا تناسب العصر وقواه الصاعدة.
أعجب أنه في عالم شديد التغير لا يدرك البعض ما صار عليه أحوال الأمم وتبدلها، فتجدهم وكأنَّ الزمان توقف عند لحظة للضعف أو القوة النسبية للدول دون تغيير. فعندهم الدول التي كانت كبرى يوماً ستظل متمتعة بممكنات التقدم ومظاهر القوة إلى ما لا نهاية. وإن هي ظهرت عليها أمارات الوهن سارعوا بإنكارها، وتباروا في تبريرها بأنها من العوارض المؤقتة. ومن المشاهد المألوفة أن التابعين لتلك الدول المتبوعة ذات المجد القديم يكونون من الأكثر نكراناً للحقيقة الساطعة بزوال أمارات القوة والمجد عنها، رغم أن أهلها أنفسهم يعترفون قولاً وعملاً بأن يومهم أقل شأناً من أمسهم الماجد.
ندرك ما أصاب مجلس الأمن من شلل منعه من حسم أخطر ما يواجه عالمنا من حروب دامية وصراعات، ناهيك عما يهدد السلم الدولي من قضايا وجودية مثل المياه، وأخرى بازغة مثل الأمن السيبراني وحوكمة الفضاء الخارجي والتنافس على موارده. ونعرف أن حفظ السلام وقواته، التي تقوم بعمل حيوي لا غنى عنه، تعاني من ضعف التمويل. ونعلم أن اتفاق باريس للمناخ وتعهداته، وما استجد عليها بعد قمم المناخ السنوية المنعقدة منذئذ، لم يفلح في تخفيف الانبعاثات الضارة بالأرض ومن وما عليها لضعف التمويل وتقييد التعاون التكنولوجي في مجالات العمل المناخي وضعف المحاسبية والحوكمة. ونعلم أن أقل من 15 في المائة فقط من أهداف التنمية المستدامة في مسارها للتحقق مع حلول عام 2030، وأن باقي الأهداف إما منحرف عن المسار أو أكثر سوءاً مقارنة بالوضع عند نقطة البداية في 2015.
يتكرر ذكر مقولة «إن لم توجد مؤسسات العمل الدولي الحالية لأوجدناها». لا بأس بها من مقولة فلا بديل للتعاون الدولي ومؤسساته متعددة الأطراف إلا نزاعات وصراعات ومزيد من الحروب المدمرة. ولكن فاعلية المؤسسات الدولية مرهونة بمصداقيتها وشرعيتها وقبولها العام وكفاءة حوكمتها، فضلاً عن كفاية مصادرها التمويلية المطلوبة لمساندة جهود العاملين بها؛ وهم من أفضل الكفاءات في مجالاتهم وإن احتاجت كوادرهم المزيد من مشاركة أبناء عالم الجنوب الأكثر دراية بشعابهم وأولويات مجتمعاتهم.
قد يتسرع البعض في الحكم بأن موضوعات قمة المستقبل لم تأتِ بجديد؛ فلسنا هنا في مجال للصرعات التي يتلقفها البعض ثم يلقيها كفعلهم بتقاليع الأزياء والإكسسوارات. فقضايا العدل والسلم والأمن والحق في التنمية قديمة قدم بزوغ الحضارات، ولكن نهج الوصول إليها ومعالمه وأدواته وتوازناته يتغير بتغير العصر وملابساته. والحلول والسياسات المختلفة مطروحة في قمة المستقبل لتضع قيادات العالم أمام مسؤولياتهم، والاختيار يكاد يكون بين أمرين في كل حالة لا ثالث لهما: سلم أم حرب؛ أمن أم فوضى؛ تقدم وتنمية أم تخلف وفقر.
في ظل أجواء التحديات الجيوسياسية والحروب الراهنة وسفك الدماء بلا جريرة، وزيادة الموجات العنصرية التي تؤججها أزمات اقتصادية وخطاب شعبوي أجوف تردده ألسنة متهافتين على كراسي الحكم، قد يستحيل التوصل إلى طموحات ينشدها ذوو العقول والضمائر. ولكن تذكرنا مقولة الزعامة الأفريقية الاستثنائية الممثلة في نيلسون مانديلا «يبدو الأمر مستحيلاً حتى يحدث». وقد شهدنا من المستحيلات السيئة صنوفاً تحدث، فلعل قمة المستقبل تأتي ببداية لصنف حميد.