مرحلة مالية حرجة تلوح في الأفق: هل ينجو الاقتصاد العالمي من فخ الديون؟
(النهار)-29/10/2025
*جو يرق
تشهد الساحة الاقتصادية العالمية تصاعداً في التحذيرات بشأن اقتراب العالم من مرحلة مالية حرجة، في ظل تضخم مستويات الدين العام بوتيرة تتجاوز قدرة الاقتصادات على النمو. وتثير هذه التطورات قلقاً واسعاً بين المؤسسات الدولية والخبراء الماليين، الذين يرون أن ارتفاع المديونية يهدد بتقويض قدرة الحكومات على تمويل أولوياتها الأساسية، في وقت تتسع فيه فجوات الإنفاق العام وتتراجع هوامش الأمان المالي.
لم يعد عبء الدين العام مقتصراً على الاقتصادات الناشئة أو الدول المتعثرة، بل امتد ليشمل الاقتصادات المتقدمة التي تواجه اليوم ضغوطاً متزايدة نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة وتكاليف الاقتراض، وسط تباطؤ النمو وتنامي متطلبات الإنفاق الدفاعي والاجتماعي. ومع تراجع قدرة الأسواق على استيعاب المزيد من الإصدارات الحكومية، تتزايد المخاوف من احتمال عودة شبح الأزمات المالية على نطاق عالمي.
وفي ضوء هذه المعطيات، يشير صندوق النقد الدولي إلى أن أزمة الديون أصبحت أحد أبرز التحديات الاقتصادية التي ستواجه العالم خلال العقد المقبل. وبحسب تقديرات الصندوق، من المتوقع أن تتجاوز مستويات الدين العام العالمي 100% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2029، لتسجل أعلى مستوى لها منذ عام 1948، مع استمرار الارتفاع في السنوات التالية. ودعا الصندوق الحكومات إلى بناء احتياطيات مالية كافية لتعزيز قدرتها على مواجهة الصدمات الاقتصادية المستقبلية.
وأظهر تقرير المراقبة المالية الأخير لصندوق النقد أن الاقتصادات المتقدمة , مثل الولايات المتحدة وكندا والصين وفرنسا وإيطاليا واليابان وبريطانيا, وصلت بالفعل إلى مستويات دين عام تتجاوز 100% من الناتج المحلي الإجمالي أو تقترب منها. ورغم امتلاك هذه الدول أسواق سندات سيادية متطورة وقدرات مالية وسياسية أوسع، فإنها لا تزال تواجه مخاطر متوسطة، في حين تجد الاقتصادات الناشئة والدول منخفضة الدخل نفسها أمام تحديات أكبر بسبب ارتفاع تكاليف الاقتراض وضعف مواردها المالية.
وتُظهر المؤشرات أن تكاليف الاقتراض العالمية ارتفعت بشكل حاد مقارنة بما كانت عليه بعد الأزمة المالية العالمية وجائحة كوفيد-19.
فقد أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى زيادة الضغط على الموازنات الحكومية، بينما تتسع التزامات الإنفاق الدفاعي والاجتماعي، وتتفاقم الأعباء الناتجة من الكوارث الطبيعية والتطور التكنولوجي السريع وشيخوخة السكان. وفي الولايات المتحدة، تجاوزت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي ذروتها التاريخية أثناء جائحة كوفيد-19، ومن المتوقع أن تتخطى 140% بحلول نهاية العقد، الأمر الذي دفع صندوق النقد الدولي إلى حث السلطات الأميركية على كبح العجز وتثبيت الدين عبر إصلاحات مالية شاملة.
كما تشير تقديرات الصندوق إلى أن نحو 55 دولة منخفضة أو متوسطة الدخل تواجه بالفعل ضائقة مالية أو معرضة لمخاطر مرتفعة، رغم أن نسب ديونها أقل من 60% من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي الوقت نفسه، تتدهور أوضاع المالية العامة في معظم الاقتصادات المتقدمة. ففرنسا تشهد ارتفاعاً مطّرداً في مستويات الدين، واليابان تواصل سياسة الإنفاق السخي رغم مديونيتها الضخمة، بينما تعاني بريطانيا من زيادات ضريبية مؤلمة لسد فجوات الموازنة.
أما الولايات المتحدة، فتواجه عجزاً غير مستدام يبلغ نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وسط خطط لخفض الضرائب قد تفاقم الوضع المالي مستقبلاً. وتشير البيانات إلى أن الدين العام في الدول الغنية بلغ نحو 110% من الناتج المحلي الإجمالي، في وقت يجد فيه صناع القرار صعوبة في تحقيق التوازن المالي مع استمرار ارتفاع تكاليف الفائدة والإنفاق الدفاعي والضغوط الديموغرافية الناجمة عن الشيخوخة السكانية.
ويرى بعض الخبراء أن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي قد يسهم في رفع الإنتاجية وتخفيف الضغوط المالية على المدى الطويل، إلا أن هذه الآمال تظل محدودة وغير مضمونة. فالتقنيات الحديثة قد تؤدي في الواقع إلى زيادة الإنفاق على المعاشات والرعاية الصحية مع ارتفاع الدخل، ما يعني تضخماً إضافياً في النفقات العامة.
كما أن تسارع الاستثمار في البنية التحتية الرقمية ومراكز البيانات قد يدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع، ما يزيد من كلفة خدمة الديون ويقوض أي مكاسب مالية محتملة من تسارع النمو الاقتصادي.
وعلى مدى الأعوام الأخيرة، ارتفعت عجوزات الموازنات الحكومية حول العالم نتيجة الأزمات المتلاحقة، خصوصاً جائحة كوفيد-19 التي قفز خلالها العجز من 3.5% من الناتج العالمي إلى 9.5% في عام 2020. ورغم أن الاستجابة المالية الواسعة كانت ضرورية لمواجهة تداعيات الأزمة، فإن معظم الدول لم تتمكن بعد من العودة إلى مسار الانضباط المالي.
فبينما بلغ الدين الحكومي العالمي قبل الجائحة نحو 84% من الناتج المحلي الإجمالي، ارتفع اليوم إلى قرابة 95%، مع توقعات بمواصلة الارتفاع بوتيرة تفوق النمو الاقتصادي خلال السنوات المقبلة.
وبحلول عام 2030، حتى في ظل السيناريوات الإيجابية، من المرجح أن يتجاوز الدين العالمي المستويات التي سُجلت في ذروة الطوارئ المالية لعام 2020، ما يشير إلى دخول العالم مرحلة مالية حساسة تتطلب سياسات أكثر حذراً وتوازناً لضمان استدامة النمو والاستقرار الاقتصادي العالمي.
*جو يرق، رئيس قسم الأسواق العالمية – Cedra Market
