مستقبل منظمة التجارة العالمية
(العربية)-07/10/2025
*عبد الله الردادي
أعلنت الصين الأسبوع الماضي عن تخليها عن امتيازات «المعاملة الخاصة والتفضيلية» التي كانت تتمتع بها منذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية قبل عقدين بصفتها «دولة نامية»، وبينما رحبت المنظمة بهذا القرار وعدّته خطوة إيجابية في طريق الإصلاح، أعاد هذا القرار موضوع المنظمة إلى الأضواء الإعلامية، فافترض البعض أن هذه الخطوة امتداد للمنهج الصيني باتخاذ خطوات رمزية لتخفيف الضغوط الغربية، ورأى البعض الآخر أنها تغيير بسيط لما يفترض أنه إعادة هيكلة وتحوّل للمنظمة بأكملها، والغريب أن موضوع المنظّمة دائماً ما يرتبط بالصين، وكأن مشكلة المنظمة اختزلت بشكل أو بآخر في الصين، بينما ما تواجهه المنظمة من تحديات أكبر من ذلك.
أزمة المنظمة أعمق من أي دولة بعينها، فهي تتعلق بفشل النظام التجاري متعدد الأطراف في مواكبة التحولات الكبرى في الاقتصاد العالمي، فعلى سبيل المثال، آلية تسوية النزاعات التي كانت يوماً مفخرة المنظمة، تعطلت منذ عام 2019 بعد رفض الولايات المتحدة تعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف، وكبريات القضايا التي اكتسحت الساحة العالمية لم تجد لنفسها مكاناً في أجندة المنظمة؛ لأنها لم تكن جزءاً من النظام التجاري التقليدي، مثل قضايا البيئة، والذكاء الاصطناعي، وسياسات الحماية الاقتصادية، وكثير من قضايا العمل، ولم تستطع المنظمة إيجاد موقع مستقل لها في قضايا النزاع بين الشمال والجنوب العالميين، في ظل ضعف استقلاليتها السياسية.
وقد أطلقت مجموعة العشرين مبادرة الرياض بشأن مستقبل التجارة العالمية إبان استضافة السعودية لاجتماعات المجموعة عام 2020، ودعت المبادرة إلى إعادة النظر في أهداف المنظمة وآلياتها بما يضمن التوازن بين مصالح الدول النامية والمتقدمة، وقدمت المبادرة رؤية سياسية لإعادة الثقة بالنظام التجاري متعدد الأطراف، من خلال التركيز على الشفافية وإدماج الاقتصاد الرقمي وتعزيز مبادئ العدالة في التبادل التجاري، وتعد هذه أول مبادرة تجمع الإرادة السياسية مع الإدراك للتحديات الجديدة، وهي ما تزال مرجعاً سياسياً لأي حديث عن إصلاح المنظمة، ولكن العالم شهد منذ ذلك اليوم وحتى الآن انقسامات أكثر ضاعفت من معاناة المنظمة وزادت بعدها عن الواقع العالمي.
وبينما طرحت بعض الأوراق العلمية والتقارير نظرة عن أن المنظمة ميّتة أو على الأقل مريضة، إلا أن إنكار أهمية المنظمة من الجحود بمكان، فقد أصدرت غرفة التجارة الدولية تقريراً بالتعاون مع معهد أكسفورد للاقتصاد، يبيّن أن غياب المنظمة أو انهيارها سيترك آثاراً كارثية على التجارة والتنمية، ففي حال تفكك النظام الحالي، ستتراجع صادرات الدول النامية بنحو 33 في المائة، وتنخفض الاستثمارات الأجنبية المباشرة بما يتراوح بين 3 و6 في المائة، وقد يخسر الاقتصاد العالمي أكثر من 5 في المائة من ناتجه الإجمالي على المدى الطويل، وسيصل انخفاض صادرات بعض الدول مثل البرازيل والهند وفيتنام إلى نحو 40 في المائة، وهو ما يعني فقدان الملايين من الوظائف وتباطؤاً في نمو دول تُعد من كبريات الاقتصادات الناشئة.
ولذلك فإن إعادة تشكيل المنظمة أصبحت الخيار الوحيد لها، وقد اقترح عديد من التقارير محاور لإصلاح المنظمة، منها إحياء آلية تسوية النزاعات دون المساس باستقلالية الهيئة بالنظر إلى اعتراضات الولايات المتحدة، وإصلاح منظومة التفاوض لتصبح أكثر مرونة، بحيث يمكن للمجموعات الإقليمية إنجاز اتفاقيات جزئية ضمن مظلة المنظمة بدلاً من انتظار إجماع شامل يستحيل تحقيقه في الاتفاقيات الدولية، وبالتأكيد تعزيز الشفافية والإفصاح بحسب مبادرة الرياض، لا سيما في مجالات الدعم الحكومي للصناعات والسياسات البيئية، وهي ضمن أكبر الخلافات الدولية في السنوات الأخيرة، وأخيراً مواكبة التغيرات العالمية بتضمين القضايا الجديدة مثل التجارة الرقمية وسلاسل القيمة والذكاء الاصطناعي لكيلا تغدو المنظمة بمنأى عن الموضوعات العالمية ذات الأثر الاستراتيجي، ولكن هذه الإصلاحات تواجه سلسلة من العوائق الهيكلية والسياسية، فالانقسام بين القوى الكبرى يجعل التوافق شبه مستحيل، ولا يبدو أن رئيسة المنظمة تملك نفوذاً يمكّنها من تجاوز هذه التحديات والوصول إلى أرضية مشتركة بين الجهات، بل على العكس يبدو أن توجه الدول يسير باتجاه معاكس لمبادئ المنظمة.
إن مشكلة المنظمة ليست في الصين كما يفضّل الغرب تصويرها، فالمنظمة ضحية مرحلة كاملة من التحول في الاقتصاد والسياسة، فالنظام التجاري لم يعد قادراً على التوفيق بين المبادئ القديمة والواقع الجديد، ولم تعد المنظمة ممكّنة للدخول في دهاليز السياسة وهي المصمّمة للجانب الاقتصادي فحسب، ولذلك فلن تستطيع المنظمة القيام بأعمالها على أكمل وجه إلا بإرادة سياسية دولية تكمل طريق مبادرة الرياض التي فتحت الباب أمام حوار دولي جاد حول مستقبل المنظمة، التي لن ينقذها تنازل تقدمه الصين أو إشادة يقدمها الاتحاد الأوروبي، فهي بحاجة إلى تجديد أدواتها لتتمكن من التعامل مع النظام العالمي الجديد، وبالتأكيد هي ليست بحاجة للبحث عن متّهم واحد يختزل مشاكلها.