موازنة الإمارات: تحت مجهر الذكاء الاصطناعي
(النهار)-21/07/2025
جابر الشعيبي*
في خطوة غير مسبوقة عالمياً، دخلت دولة الإمارات العربية المتحدة التاريخ بصفjها أول دولة تعتمد الذكاء الاصطناعي في إعداد الموازنة العامة لحكومتها الاتحادية، في سابقة تؤسس لمرحلة جديدة من إدارة المال العام تستند إلى البيانات، وتبتعد من التقديرات التقليدية والقرارات الحدسية. هذا التحول ليس تقنياً فحسب، بل هو نقلة مفاهيمية تعكس رؤية متقدمة لمفهوم الكفاءة الحكومية والاستباق المالي.
وبعد أن بدأت وزارة المالية دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في إعداد موازنة 2024، انتقلت الإمارات اليوم، في عام 2025، إلى مرحلة التنفيذ الكامل بإطلاق دورة الموازنة الذكية 2027–2029، أول دورة اتحادية في العالم تُبنى بالكامل على أدوات الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبؤي. تبلغ القيمة الإجمالية لهذه الدورة نحو 245 مليار دولار، موزعة على 4 سنوات، وتستند إلى نماذج خوارزمية لتخصيص الموارد وتقييم الأداء وضمان الاتساق مع الأولويات الاستراتيجية الوطنية.
وتزامناً مع هذا التحول، نظّمت الوزارة “الملتقى الوطني للذكاء الاصطناعي المالي” (AI Retreat) في أيار/مايو 2025، لوضع خطة متكاملة تقوم على 6 محاور: الرؤية المستقبلية للمالية الحكومية، العمليات الذكية، حوكمة البيانات، البنية التحتية، بناء القدرات، وتأثير الوزارة كمؤسسة مستقبلية. وأكدت الوزارة أن الدمج العميق للذكاء الاصطناعي في المالية العامة لا يهدف إلى تسريع الإجراءات فحسب، بل إلى إعادة تشكيل ثقافة اتخاذ القرار المالي برمتها.
تشير تقديرات وزارة المالية إلى أن اعتماد الذكاء الاصطناعي ساهم في تحسين كفاءة تخصيص الموارد بنسبة تصل إلى 20% خلال المرحلة التجريبية، وتقليص الفجوة بين الموازنات التقديرية والتنفيذ الفعلي بنسبة 12%. كما ساعد في تسريع إجراءات إعداد الموازنة بنسبة 30%، وتقليص الوقت اللازم لاتخاذ القرار المالي في بعض الجهات الحكومية من أسابيع إلى أيام. ومتوقع في الدورة المقبلة اختصار خطوات إعداد الميزانية من 50 خطوة إلى 10، ودورة الشراء الحكومي من 60 يوماً إلى أقل من 6 دقائق.
وتمتد فوائد هذا التوجه إلى تحليل طلب المواطنين على الخدمات ومقارنتها بالأداء الفعلي للجهات، ما يعزز ربط الموازنة بنتائج الأداء، ويجعل الحكومة أكثر شفافية. وتستفيد الإمارات كذلك من تكامل هذا النهج مع منظومة “بيانات الإمارات”، التي تُغذى بمعلومات من أكثر من 30 جهة اتحادية، وتعد من أكثر قواعد البيانات الحكومية تطوراً في المنطقة.
مؤسسياً، حظيت وزارة المالية بتقدير دولي بعد فوزها بجائزة “Innovating for Impact” خلال قمة الذكاء الاصطناعي للأعمال الصالحة (AI for Good Summit 2025) في جنيف، تأكيداً على ريادتها في استخدام الذكاء الاصطناعي لخدمة السياسات المالية. مع ذلك، لا يخلو هذا التقدّم من تحديات، أبرزها الحاجة إلى ضمان حيادية الخوارزميات، وتعزيز الكفاءات البشرية القادرة على تحليل البيانات واستخدام الأدوات التنبؤية. لذا، أطلقت الإمارات مبادرات مثل “مُبرمج الحكومة” و”الذكاء الاصطناعي للجميع” لتأهيل الكوادر الحكومية، بالتوازي مع تطوير تشريعات وطنية لحوكمة البيانات بالتعاون مع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
تتجلى جرأة الإمارات في إدخال الذكاء الاصطناعي في واحدة من أكثر العمليات الحكومية حساسية – إعداد الموازنة – ليس كإجراء تقني فحسب، بل كأداة لتغيير ثقافة الإدارة المالية الحكومية، من منطق التقدير إلى منطق الاستباق، ومن البيروقراطية إلى المرونة.
تمثل تجربة الإمارات في دمج الذكاء الاصطناعي في الموازنة العامة نموذجاً رائداً يمكن أن يُحتذى به عربياً وعالمياً. فإن إدخال الذكاء الاصطناعي يدل على رغبة حقيقية في أن تكون السياسات العامة أشدّ كفاءة، وأقرب إلى الواقع، وأسرع في التفاعل مع التحديات.
*كاتب وباحث إماراتي