ميزة عدم اليقين: كيف يحوّل المدراء المخاطرة إلى مصدر للنمو!
(العربية)-16/09/2025
م. عبدالله عودة الغبين
في أزمنة التصاعد المطّرد لموجات عدم اليقين، يميل كثير من القادة التنفيذيين إلى الانكماش الدفاعي واعتماد نهج الحذر الشديد. غير أنّ هذا التوجّه، الذي يبدو للوهلة الأولى ضمانة للاستقرار، يخفي في جوهره مخاطرة أكبر: تفويت فرص ثمينة لتعزيز الحصة السوقية، أو دفع عجلة الابتكار، أو بناء رأس مال العلامة التجارية.
تشير بحوث صادرة عن مجموعة بوسطن للاستشارات (BCG) إلى أنّ الخوف من الفشل لا ينبغي أن يكون المحرك الوحيد لقرارات القيادة، بل إنّ الخوف من التقاعس وضياع الفرص هو ما يستحق أن يكون محور التفكير الاستراتيجي. فالمخاطرة المحسوبة تمثل ركيزة أساسية للميزة التنافسية، وهي الحد الفاصل بين الشركات القادرة على النمو حتى في أحلك الظروف وتلك التي تتقهقر إلى الخلف. وتؤكد البيانات أنّ نصف الرؤساء التنفيذيين تقريبًا يندمون على تباطؤهم في صياغة الاستراتيجيات، في حين يبدي أغلب المستثمرين في الأسواق الكبرى تأييدًا قويًا لتوجيه الموارد نحو الابتكار واستراتيجيات النمو حتى لو جاء ذلك على حساب الأرباح قصيرة الأجل. إنّ هذا الموقف يعكس إدراكًا متعاظمًا لأهمية المبادرة والجرأة الاستراتيجية.
وقد أظهرت دراسات موسّعة أنّ القادة الذين أطلقوا عمليات التحول الاستراتيجي في سنواتهم الأولى حققوا عوائد أعلى للمساهمين مقارنةً بمن أجّلوا القرارات المصيرية أو ترددوا في اتخاذها. على الضفة الأخرى، يقدّم التاريخ شواهد صارخة على عواقب النهج الدفاعي؛ فشركة كوداك مثلًا، التي اخترعت الكاميرا الرقمية داخل مختبراتها، أرجأت التحول الرقمي خشية تقويض أرباحها التقليدية، فانهارت إمبراطورية كانت توصف بأنها لا تُقهَر. وشركة بلاك بيري، في ذروة هيمنتها على سوق الهواتف الذكية، استهانت بتهديد آيفون وأندرويد وفضّلت الدفاع عن نموذجها القائم بدل الدخول في مغامرة ابتكارية، فانكمشت حصتها السوقية إلى حد التلاشي. وكذلك بلوكباستر، التي سخرت من نيتفليكس ورفضت الاستثمار في البث الرقمي، فدفعت ثمنًا باهظًا حين تحوّل المنافس الناشئ إلى عملاق عالمي بينما طواها النسيان.
إنّ النجاح المستدام لا يتحقق بالتمسّك بالحذر وحده، بل يتطلب عقلية مزدوجة تجمع بين الانضباط التشغيلي والجرأة الاستراتيجية. فالتوازن بين إدارة العمليات اليومية بإتقان، والاستثمار في رؤى مستقبلية طموحة، هو ما يصنع الفارق. وينبغي للقادة أن يقيسوا كلفة الفشل المحتمل وكلفة عدم التحرك على السواء، إذ كثيرًا ما تركز الشركات على المخاطر المباشرة وتتجاهل أنّ التردد ذاته قد يبدّد حصصًا سوقية، ويضعف القدرة على جذب المواهب، ويقوّض الزخم التنافسي. وتجسّد أمازون هذا النهج خير تجسيد؛ إذ واصلت الاستثمار في الابتكار والتوسع خلال فترات الركود، فخرجت منها أكثر هيمنةً على أسواق متعددة.
ولا يكتمل هذا التحول دون كسر دوائر الصدى المألوفة، فالقادة يحتاجون إلى تنويع مصادر الرأي، من موظفي الخطوط الأمامية إلى المستثمرين والخبراء وقادة قطاعات أخرى. الإصغاء إلى الأصوات المختلفة يكشف التحيزات الخفية ويعمّق الفهم، وقد كانت نيتفليكس مثالًا واضحًا حين استمعت إلى إشارات السوق وغيّرت نموذجها من تأجير الأقراص إلى البث الرقمي، لتصبح رائدة في صناعة جديدة بالكامل. ومن المهم أيضًا مراجعة التحيزات الداخلية باستمرار وفحص آليات اتخاذ القرار حتى لا يتخذ الخوف أو الجمود صفة “الحكمة”الزائفة.
لكنّ هذه العقلية لا يجوز أن تظل حبيسة مكتب الرئيس التنفيذي، بل يجب أن تتحول إلى ثقافة مؤسسية متجذرة تشجع على الفضول والتجربة والمخاطرة المحسوبة. فبناء بيئة تسمح بالتحدي الآمن، ومكافأة الجرأة حتى إن لم تؤدِ إلى نجاح فوري، هي الأسس التي تحوّل المؤسسات من ثقافة تجنّب المخاطر إلى ثقافة استباقية تُحوّل التحديات إلى محركات للنمو. لقد نجحت جوجل في ترسيخ هذه الروح من خلال مشاريعها التجريبية التي، وإن لم يكتب لها النجاح جميعًا، أسهمت في بناء منظومة ابتكار متواصلة.
وحده هذا التحول يمنح المنظمات ما يُعرف بـ”ميزة عدم اليقين”، وهي القدرة على اغتنام فرص المستقبل وتأمين موقع تنافسي مستدام في سوق متغيرة وسريعة الإيقاع.