نموذج ذكاء اصطناعي سعودي.. حلم أم ضرورة استراتيجية؟
(العربية)-17/02/2025
*د. جمال عبدالرحمن العقاد
لا شك في أن الذكاء الاصطناعي قد تجاوز مرحلة الترف، ومتى ابتعد عن الاعتماد المفرط في استيراده بدلاً من إنتاجه، سيكون مفتاح القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في القرن الحادي والعشرين، والمملكة العربية السعودية لديها كل ما تحتاجه لتكون ضمن المتقدمين في هذا السباق، والسؤال هنا هو متى ستفاجئ المملكة العالم بمنصتها الخاصة بها في الذكاء الاصطناعي؟
عندما أعلنت شركة “ديب سيك” (DeepSeek) عن أول منصة ذكاء اصطناعي صينية، كان واضحًا أن الصين تستهدف منافسة عمالقة التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وربما ترمي إلى الهيمنة على عالم الذكاء الاصطناعي، فالحدث لم يكن مجرد إعلان عن نموذج ذكاء اصطناعي جديد، بل رسالة استراتيجية بأن الصين قادرة على قيادة الثورة التقنية القادمة.
ما نجحت فيه الصين يعني أن دولا أخرى من ذوات الامكانيات تستطيع المزاحمة ومن ضمنها المملكة، وهذا ليس ادعاءً قائماً على أحلام وردية ولكن على شواهد واقعية، فالسعودية تمتلك كل المقومات التي تؤهلها للدخول في هذا المجال، ففي السنوات الأخيرة رأينا استثمارات ضخمة في مجال التقنية والذكاء الاصطناعي، بدءًا من إنشاء الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، ووصولًا إلى ضخ مليارات الدولارات في شركات التكنولوجيا عبر صندوق الاستثمارات العامة.
وبرغم أن البنية التحتية والموارد المالية للمملكة متاحة، يظل ما تمتلكه من جامعات ومراكز بحثية قوية بحاجة إلى تسريع وتيرة الأبحاث في الذكاء الاصطناعي، فهناك دول أخرى مثل الإمارات إقليميا والهند دوليا، بدأت بالفعل في تطوير نماذجها الخاصة بها، وبوتيرة متسارعة نحو تحقيق الاستقلالية التقنية وضمان موطئ قدم في السوق العالمي.
لكن تظل الأسواق العالمية جاهزة لاستقبال منافس سعودي جديد، فحتى الآن لا يوجد نموذج ذكاء اصطناعي مهيمن في العالم العربي والإسلامي، يفهم اللغة العربية والسياق الثقافي والتاريخ الإسلامي بشكل أفضل من أي نموذج آخر، مما سيكون بمثابة ثورة معرفية حقيقية، وبالرجوع للتاريخ وتحديدا إلى العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، سنجد أن هناك تجربة رائدة يمكن أن تكون مصدر إلهام للمشروع السعودي.
في عهد الخليفة العباسي المأمون، شهد العالم الإسلامي ثورة علمية هائلة من خلال مشروع الترجمة، الذي تجسد في بيت الحكمة، وقد كان هذا المشروع أعظم مبادرة علمية شهدها العصر الوسيط، حيث تم ترجمة العلوم والفلسفة والرياضيات والفلك من اليونانية والسريانية والفارسية والهندية إلى العربية، ولم يكن الأمر مجرد نقل للمعرفة، بل كان تطويرًا وابتكارًا أسهم لاحقًا في النهضة الأوروبية، إذ انتقلت هذه العلوم إلى الغرب عبر الأندلس وصقلية.
ما فعله المأمون كان بمثابة بناء نموذج معرفي جديد، جعله في طليعة العلوم والتكنولوجيا لقرون، ويمكن للمملكة اليوم أن تستلهم هذه التجربة عبر إطلاق مشروع مماثل ليكون بيت الحكمة الرقمي السعودي للعالم العربي والإسلامي، في شكل منصة ذكاء اصطناعي تعزز اللغة العربية علميًا وتقنيًا، وتقدم حلولًا متطورة في جميع المجالات الإنسانية والاجتماعية والعلمية.
الصين نجحت بفضل استراتيجيتها الوطنية في عام 2017، وأعلنت عن خطتها لتصبح القوة العظمى في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، والمملكة العربية السعودية من خلال نموذجها الخاص المستوحى من عمقها العربي والإسلامي، قادرة لتكون منافسًا كبيرا في هذا المجال، ورغم أن النجاح لن يأتي بين يوم وليلة، إلا أن المملكة لديها الفرصة لتكون في طليعة هذه الثورة التكنولوجية، إذا استمرت في الاستثمار بقوة وبنهج استراتيجي مدروس.