هل أصبح النظام العالمي مصمماً لتعظيم الهشاشة والانهيارات؟
(العربية)-29/10/2025
*أحمد الشهري
في كل أزمة عالمية، سواء كانت جائحة كوفيد-19 التي كشفت ضعف سلاسل الإمداد، أو حرب أوكرانيا التي هزت أسواق الطاقة والحبوب، أو حتى اضطرابات التجارة العالمية والرسوم الجمركية بين أميريكا والصين وبقية دول العالم. تتكشف لنا الحقيقة نفسها: لم نعد نواجه صدمات عشوائية يمكن امتصاصها، بل أصبح النظام الاقتصادي العالمي مصمماً لتضخيم الهشاشة.
الاخفاقات المتتالية ليست استثناءً، بل نتيج منطقية لفلسفة تحولت من البحث عن الكفاءة إلى حرق المرونة كلياً، حيث أصبحت الشركات تعامل أي استثمار في المخزون الاحتياطي أو تنويع الموردين كـ”رأس مال معطل” يُثقل الأرباح الربعية التي يُقاس بها أداء الرؤساء التنفيذيين.
أساءت القيادات التنفيذية تفسير مبدأ الميزة النسبية لـ”ديفيد ريكاردو”، فحولتها من أداة اقتصادية إلى تخصيص مطلق يلغي أي هامش للمناورة، وبدلا من شبكات إمداد مرنة قادرة على التحول السريع اعتمدت على شبكة واحدة ومورد واحد أو ميناء واحد أو مخزون محدود، النتيجة؟ تكلفة خارجية غير مسعرة يدفعها النظام الكلي لاقتصاد الدولة ويدفعها عن أول صدمة.
انقطاع الإمدادات وشح المخزون ليست حوادث، بل فواتير مؤجلة لسياسة “الإنتاج عند الطلب” (Just-in-Time) التي أثبتت فعاليتها خلال العقود الماضية من تاريخنا الاقتصادي، لكنها تحولت اليوم – في ظل الحروب الجيو اقتصادية والكوارث المناخية والأزمات السياسية إلى قنبلة موقوتة.
ما يعرف بـ(JIT) يعتمد على تزامن الإنتاج مع الطلب اللحظي، ما يقلل المخزون إلى 3-7 أيام فقط، ويحدد عدد الموردين إلى 1-2 لكل مكون، هذا النهج رفع الربحية قصيرة الأمد، لكنه جعل الشركات عاجزة عن الصمود أمام صدمة واحدة، في المقابل الدول التي نجت من الأزمات كانت تلك التي استثمرت في المرونة، بعض الدول احتفظت بمخزون نفط كبير ودول أنشأت 10 موانئ بديلة لتجنب الاعتماد على ميناء واحد، هذه ليست تكاليف إضافية، بل تأمينا ضد الانهيارات، لذلك يجب تبني مفهوم “تكلف المرونة” (Cost of Resilience) كبند محاسبي واضح، تماماً كتكلفة التأمين والصيانة.
ما سبق يعني الانتقال من الربح الربعي إلى الربح السنوية، وتخصيص 2-5% من الإيرادات لبند المرونة يستخدم في زيادة المخزون وتنويع الموردين وبناء مسارات لوجستية أكثر تنوعاً حتى لو ارتفعت التكلفة بنسبة 8-10% سنوياً، نعم، هذا يعني أرباحاً أقل في الربع الـlrfg، لكنه يضمن البقاء والصمود والتكيف مع الهشاشة العالمية.
أخيرا: التحدي ليس في البحث عن اليقين وعن الكفاءة المطلقة، بل هندسة انضباط كلي يربط كل قرار جزئي للشركات بهدف الاستدامة الكلية لاقتصاديات الدول، فالدول التي تقيس ثمن الانهيار قبل وقوعه عبر تسعير تكلفة الهشاشة أو تكلفة المرونة هي التي ستحصن شركاتها واقتصادها من الانهيار العالمي، أما الشركات التي تظل أسيرة التحيز الربعي، فستكون أول الضحايا في الأزمة المقبلة، لأن النظام العالمي لم يعد يتحمل مزيدا من الهشاشة المصممة.
