هل تسيطر كبرى شركات التكنولوجيا على مقاليد الأمور في العالم؟
(العربية)-27/11/2024
*رنا فوروهار
يحمل فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية في طياته العديد من التغيرات الجذرية. وأحد هذه التغيرات هو التزاوج بين الحتمية التكنولوجية (حيث تقود التكنولوجيا التغير الاجتماع والثقافي) والتحررية.
ففي عالم هذه الإدارة الجديدة، تتلاشى الخطوط الفاصلة بين عالم الاقتصاد الأمريكي ميلتون فريدمان ومليارديرات عالم التكنولوجيا أمثال إيلون ماسك، وبيتر ثيل، ومارك أندريسن، ومارك زوكربيرج، الذين تتجسد فلسفتهم في التحرر من كل القيود المفروضة على الأسواق.
وفي هذا السياق، نجد أن مجموعة ترامب من التحرريين التكنولوجيين «المتطوعين»، كما وصفهم ماسك بشكل مخادع إلى حد ما، نظراً لحصول «تسلا» و«سبيس إكس» على تمويل فيدرالي أكبر من تمويل الإذاعة الوطنية العامة «إن بي آر». ويرى هؤلاء «المتطوعون» أنه يجب تركهم وشأنهم في المضي قدماً لتفكيك جهاز الدولة، سعياً لتحقيق الكفاءة وجني المزيد من الأرباح.
وقد تحقق الهدف الثاني بالفعل، أو على الأقل بالنسبة لرواد وادي السيليكون، حيث شهدنا ارتفاعاً ملحوظاً في قيمة شركات الذكاء الاصطناعي، والعملات المشفرة، وأي شركات مرتبطة بماسك، منذ الانتخابات.
لكن الولايات المتحدة ليست بأي حال من الأحوال المكان الوحيد الذي يمارس فيه قادة التكنولوجيا نفوذاً غير مبرر. فخلال الأسبوع الماضي، أعلن ماسك أن أعضاء البرلمان في المملكة المتحدة «سيتم استدعاؤهم إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتفسير أسباب رقابتهم وتهديدهم للمواطنين الأمريكيين».
جاء ذلك بعد دعوة تشي أونورا، البرلمانية عن حزب العمال ورئيسة لجنة العلوم والتكنولوجيا في البرلمان، وهي أيضاً مهندسة اتصالات، إلى استدعاء ماسك لتفسير انتشار المعلومات المضللة قبل أعمال الشغب التي شهدتها المملكة المتحدة خلال شهر أغسطس الماضي.
ولحسن الحظ، هناك من لديه الجرأة للوقوف في وجه كبرى شركات التكنولوجيا. وقد أخطأ بيتر كايل، وزير العلوم والتكنولوجيا بالمملكة المتحدة، الأسبوع الماضي، عندما عبر عن رأيه بأنه على دول مثل بريطانيا أن تتفاعل مع أقوى شركات التكنولوجيا مثلما تتفاعل مع الدول القومية.
وقال كايل إن الحكومات يجب أن تظهر «قدراً من التواضع» وأن تستخدم «الحنكة السياسية» في التعامل مع شركات عملاقة مثل «جوجل» و«مايكروسوفت» و«ميتا».
وإذا كان هناك درس يمكن تعلمه من فترة أواسط تسعينات القرن الماضي، فهو أن الحذر والتواضع ليسا مناسبين بالمرة للتعامل مع كبرى شركات التكنولوجيا التي تتصرف وفق قواعدها الخاصة ومن أجل مصلحتها الشخصية.
وفي التوقيت الذي يشكل فيه ترامب إدارته الجديدة، كانت مكاسب هذه الشركات هائلة بالفعل. ولننظر كيف تستولي «بالانتير» على المجمع الصناعي العسكري، وقفزات «بيتكوين» لمستويات مرتفعة جديدة، واستمرار تفضيل منصة «إكس» للجمهوريين على حساب الديمقراطيين، وزيادة ثروات طبقة التحرريين التكنولوجيين.
ويعد حلم العالم المدفوع بالتكنولوجيا الخالي من القيود الحكومية قديماً قدم الإنترنت. ولقد ساعد على ذلك التحرر من القيود التنظيمية في عهد رونالد ريجان. كما أن موقف عدم التدخل في تطوير الإنترنت الاستهلاكي في تسعينات القرن العشرين قدم يد المساعدة أيضاً في عهد بِيل كلينتون. وقد أدى الإعفاء من المسؤولية بموجب «المادة 230»، سيئة السمعة الآن، إلى السماح بظهور سلسلة شركات الدوت كوم الجديدة في وادي السيليكون.
وفي عام 2023، كتب جوناثان تابلين كتابه التبصيري «نهاية الواقع: كيف يبيع أربعة مليارديرات مستقبلاً خيالياً في الميتافيرس، والمريخ، والعملات المشفرة»، وكان يقصد ماسك، وثيل، وأندرسن، وزوكربيرج. ولفت تابلين في كتابه إلى الارتباط بين عصر كلينتون وآل غور، وماسك، وتصريحات بيتر كايل.
وقال: «أعتقد أن أباطرة التكنولوجيا هم المسيطرون بالفعل»، وتابع: «في النهاية، هذه الكيانات هي التي تبني الحوسبة السحابية، والبنية التحتية للذكاء الاصطناعي للدول القومية، إضافة إلى الكابلات البحرية التي تشغل التجارة الرقمية والاتصالات، والمسيرات العسكرية وتكنولوجيا الأقمار الصناعية الضرورية للدفاع، وحالياً، يبنون أنظمة العملات الدولية التي قد تكون في صميم الأزمة المالية التالية».
واستيلاء كبرى شركات التكنولوجيا على وعي صانعي السياسات والحكومات ليس سوى مجرد جزء واحد من المشكلة. ففي السنوات الأخيرة، تزاوجت التحررية التكنولوجية مع انتشار المناطق الخارجة عن سيادة الدول، مثل الموانئ الحرة والملاذات الضريبية والمناطق الاقتصادية الخاصة وحتى المدن الخاصة، حيث يمكن للمليارديرات التكنولوجيين ومن يريدون أن يكونوا على شاكلتهم الهروب من القيود.
وتحدثت مجموعة كتب جديدة، مثل «تصدع الرأسمالية» لكوين سلوبوديان، و«العالم المخفي» لأتوسا أراكسيا أبراهاميان، عن الطرق التي يمكن بها لهذه الأماكن نقل الثروات من الدول الغنية إلى تلك الفقيرة دون عناء دفع الضرائب أو الاهتمام بالقيود واللوائح المحلية.
وكثير من الأموال والأشخاص في مثل هذه الأماكن من وادي السيليكون. ولدينا بروسبيرا كمثال على ذلك، وهي بلدة خاصة موجودة في هندوراس مولتها بشكل جزئي صناديق مدعومة من أندرسن وثيل وسام ألتمان.
وهناك، يمكن للشركات تأسيس أطرها التنظيمية الخاصة، ويمكن لرواد الأعمال إجراء تجارب طبية جنونية بمعزل عن معايير إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، ويتمتع مواطنوها بحماية من الجريمة (التي يفترض أنها ليست من النوع الذي يرتكبه أصحاب الياقات البيضاء) توفرها شركات أمن خاصة يعمل بها حراس مسلحون. وهدفها يقول كل شيء: مستقبل الحوكمة: يدار بواسطة القطاع الخاص ومن أجل الربح.
وقد يكون هذا شعار إدارة ترامب أيضاً. لكن حري بالمستثمرين تذكر أن التحررية التكنولوجية غالباً ما تبلغ ذروتها قبل انهيارها. ففي عام 2006، كتب ريتشارد هاس، المسؤول السابق في وزارة خارجية جورج دبليو بوش، مقالاً، دفع فيه إلى الارتقاء بمنزلة المؤسسات إلى منزلة قريبة من مكانة الدول القومية.
ولعبت شركات مثل «مايكروسوفت» و«جولدمان ساكس» دوراً في «المداولات الإقليمية والعالمية»، بالنظر إلى تآكل «القوة شبه الاحتكارية» للدول.
لكن الأزمة المالية الكبرى جعلت هذه الفكرة تبدو باليةً وغير مقبولة سياسياً، ولو لفترة مؤقتة. أما اليوم، فنحن نشهد كيف تبدو القوى الاحتكارية الخاصة وهي تتخفى في ثوب الحكومة. وأتساءل كم من الوقت سيستغرق هذا الحلم، أو ربما الكابوس، قبل أن يفيق العالم من غفلته.