هل تكون الحواسيب الكمية عصا العلم السحرية لتغيير العالم؟
(البيان)-19/03/2025
*سيمون موندي
إمكانية إتاحة المجال لتطوير عقاقير جديدة ذات استهداف دقيق وفعالية غير مسبوقة وآثار جانبية محدودة للغاية.
الحوسبة الكمية، شأنها شأن طاقة الاندماج النووي، تمثل ابتكاراً ثورياً، مر بمراحل تطوير طويلة. رغم ذلك، يرى بعض قادة التكنولوجيا أن الحوسبة الكمية تقترب من الانتقال من مرحلة التجارب إلى الاستخدام التجاري الفعلي، خلال بضع سنوات، وفقاً لما أكده ساتيا ناديلا الرئيس التنفيذي لشركة مايكروسوفت، الشهر الماضي.
وقد تتلاشى في المقابل هذه الآمال، لكن ذلك لا يقلل أهمية استيعاب الإمكانات الهائلة لهذه التقنية، وقدرتها على تغيير وجه العالم. وفي حوار أجريته مع رئيس إحدى أبرز شركات الحوسبة الكمية على الصعيد العالمي، أكد أن عصر الحوسبة الكمية أقرب إلينا مما نتصور، وأن تأثيره في رفاهية الإنسان، سيكون أعمق بكثير مما يدركه معظمنا، فلنتأهب لذلك.
وكما قال الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان ذات مرة: «إذا كنت تعتقد أنك تفهم ميكانيكا الكم، فأنت في الواقع لا تفهمها».
هذه العبارة تعكس بدقة التعقيد المذهل لهذا المجال العلمي، الذي يوضح كيف أن الكون، على المستوى دون الذري، يخالف جميع القواعد الفيزيائية التي استخلصناها من مراقبة العالم حولنا.
وكان فاينمان أول من اقترح كيفية تسخير علم ميكانيكا الكم لتحقيق أثر قوي، وذلك ببناء حواسيب ذات قدرات معالجة فائقة. وطوال معظم السنوات الأربع والأربعين المنصرمة، منذ ورقة فاينمان المحورية حول الحوسبة الكمية، كان ينظر إلى هذا المجال باعتباره منطقة علمية مثيرة للاهتمام، دون آفاق متوقعة لتجاوز المرحلة التجريبية، إلا أن الأشهر القليلة الماضية، شهدت موجة إعلانات كبرى من عمالقة التكنولوجيا، ما عزز الآمال في أن الحواسيب الكمية قد تصبح قريباً أكثر من مجرد فكرة أكاديمية طموحة. ولم يعد الجدل في أوساط قادة صناعة التكنولوجيا يدور حول إمكانية تحقيق هذه القفزة، بل حول توقيتها.
وفي هذا السياق، قال جيريمي أوبراين الرئيس التنفيذي لشركة «بساي كوانتم»، وهي الشركة الأكثر تمويلاً في سباق الحوسبة الكمّية، والتي تنافس عمالقة مثل غوغل ومايكروسوفت: «أعتقد أن العالم ليس مستعداً تماماً لهذه النقلة، ولا يفكر بعمق كافٍ في تداعياتها». وأكد أوبراين أن الاستخدام التجاري للحوسبة الكمية سيكون له تأثير جذري، يغير قواعد اللعبة في مجالات عديدة، خاصة في ما يتصل بالتحديات المتعلقة بتغير المناخ والصحة والأمن الغذائي.
ويهدف أوبراين ومنافسوه إلى تسخير أحد أكثر جوانب ميكانيكا الكم إثارةً للحيرة: «تراكب» الجسيمات دون الذرية، مثل الإلكترونات والفوتونات. وتقوم أجهزة الكمبيوتر التقليدية بتمثيل البيانات باستخدام «البتات»: وهي سلسلة من الآحاد والأصفار، تتم معالجتها من خلال شرائح سيليكونية، تحتوي على ترانزستورات تعمل كمفاتيح إلكترونية، إما في وضع التشغيل أو الإيقاف.
وعلى النقيض من ذلك، تستخدم أجهزة الحاسوب الكمية، الجسيمات دون الذرية لإنشاء «وحدات الكم» (كيوبتات). ووفقاً لميكانيكا الكم، فإن الإلكترون (إذا لم تتم مراقبته بنشاط)، لا يكون في موضع محدد، بل له احتمالية معينة للوجود في كل موضع. وبالمثل، فإن وحدة الكم (كيوبت) ليست واحداً ولا صفراً، بل لها احتمالية رياضية لأن تكون أياً منهما.
والعلم أكثر تعقيداً من أن يتم تفسيره بالكامل، ويكفي القول إنه، من الناحية النظرية، ستكون أجهزة الحاسوب الكمية قادرة على أداء عمليات خلال دقائق، بينما العمليات نفسها تحتاج ملايين السنين من أقوى الحواسيب العادية لإنجازها.
والفجوة بين الحوسبة الكمّية والتقليدية هائلة، لدرجة أن «التفكير في الحواسيب الكمية على أنها مجرد أجهزة أكثر قوة، هو أمر غير مفيد، حسبما قال أوبراين في حديثه معي». وأضاف: «في الواقع، أكاد أقول إن وصفها بالحواسيب ليس دقيقاً على الإطلاق».
وتمكنت شركة «بساي كوانتم» من مراكمة موارد مالية بقيمة 665 مليون دولار، من جهات استثمارية بارزة، بينها بلاك روك، وبيلي جيفورد، وتيماسيك، فضلاً عن استثمار بقيمة 617 مليون دولار، تلقته العام الماضي من الحكومة الأسترالية.
وتضطلع الشركة حالياً ببناء ما تصفه بأنه سيشكل أول حاسوب كمي «ذي مستوى خدمي» في العالم، بهدف تدشينه عام 2027، قرب مدينة بريزبن الأسترالية. ويتوقع أن يتمتع الحاسوب، المصمم ليستوعب حتى مليون وحدة كمية (كيوبت)، بقدرات تفوق بمراتب عدة، تلك التي طورتها جهات أخرى بالفعل، والتي أجرت عمليات حسابية ذات منفعة محدودة في الواقع العملي.
وأوضح أوبراين أن التطبيق الذي يحتمل أن يكون الأكثر أهمية للحوسبة الكمية، سيتمثل في نمذجة سلوك الجزيئات المعقدة بدرجة من الدقة، يستحيل بلوغها حتى باستخدام أكثر الحواسيب التقليدية تطوراً. وقد تترتب على ذلك، وفقاً لرؤيته، تداعيات بالغة الأهمية بالنسبة لصحة الإنسان، من خلال إتاحة المجال أمام تطوير عقاقير جديدة، ذات استهداف دقيق، تتسم بفعالية غير مسبوقة، وآثار جانبية محدودة للغاية.
وأشار إلى أن المستفيدين في المستقبل من هذا العلم، قد يرون أنه «من قبيل الغرابة إلى حد ما، أننا كنا على استعداد لإدخال أدوية إلى أجسامنا، في حين أننا لا ندرك حقاً آلية عملها»، لافتاً إلى وجود تطبيق آخر بالغ الأهمية، يتمثل في إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي للتصدي لتغير المناخ.
وفي حين قامت عدة شركات بتطوير نظم لتحقيق هذه الغاية، إلا أن التكلفة لا تزال باهظة بشكل يتعذر معه تنفيذها — غير أنه قد يمكن خفضها بشكل كبير، إذا أمكن استخدام الحواسيب الكمية لتحديد المادة المثلى لاستخدامها في امتصاص الكربون. وأردف أوبراين أن هذا التطور قد تترتب عليه تداعيات كبيرة، في ما يتعلق بالأمن الغذائي العالمي، مع إمكانية إنتاج أسمدة أكثر فعالية، وأقل تسبباً للتلوث.
وقد يكون من الحكمة أن يتحلى مستثمرو «بساي كوانتم» بالصبر قبل الاحتفال، فالهشاشة المتأصلة في أي نظام يعتمد على الجسيمات دون الذرية، تجعل من هذا الأمر تحدياً هندسياً هائلاً، رغم زعم «بساي كوانتم» أن نظامها، المعتمد على وحدات كمية مبنية حول الفوتونات بدلاً من الإلكترونات، سيكون أكثر متانة من نظم منافسيها.
ويشكل هؤلاء المنافسون مجموعة ضخمة للغاية، فقد أعلنت شركات غوغل ومايكروسوفت وأمازون، إحراز تقدم كبير في مشروعاتها الخاصة بالحوسبة الكمية خلال الأشهر الأربعة الماضية. وفي الأسبوع الماضي، أفادت شركة «دي-ويف» الأمريكية الناشئة، أن حاسوبها الكمي تمكن من حل مشكلة بالغة التعقيد، يستحيل على أي نظام تقليدي معالجتها، ما أدى لارتفاع حاد في قيمة أسهمها.
ورغم هذه التطورات، أبدى عدد من كبار الشخصيات في مجال التكنولوجيا مؤخراً، توقعات متحفظة حيال آفاق هذا القطاع على المدى القريب. فقد قال جنسن هوانغ الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا الرائدة في مجال الرقائق الإلكترونية، في يناير، إنه يعتقد أن أجهزة الحاسوب الكمي المفيدة حقاً، لا تزال على بعد 15 إلى 30 عاماً.
وجاء ذلك، عقب تصريح ديمس هاسابيس، الحائز على جائزة نوبل، ومؤسس شركة غوغل ديب مايند، بأن الذكاء الاصطناعي العامل على الحواسيب التقليدية، قد يكون قادراً على معالجة مشكلات طالما اعتقد أنها لا يمكن التصدي لها إلا بواسطة أجهزة الحاسوب الكمية.
كما أن الأمر لا يخلو من بعض المخاطر المحتملة، فبوسع الحواسيب الكمية اختراق نظم التشفير التي تؤمن شبكة الإنترنت، والعديد من النظم التي تشكل أساس العالم المعاصر، ما قد يفتح مجالاً خطيراً جديداً للحرب السيبرانية.
بيد أنه في حال نجاح شركة «بساي كوانتم»، أو إحدى الشركات المنافسة لها في تجاوز الشكوك، وبناء حاسوب كمي يعمل بموثوقية، وعلى نطاق واسع، قد يؤدي ذلك إلى إيجاد مجموعة جديدة ومهمة من الفرص للتصدي لأكثر التحديات إلحاحاً، التي تواجه البشرية. وفي هذا الصدد، قال أوبراين: «يتعلق الأمر بحل مشكلات يستحيل حلها بأي طريقة أخرى على الإطلاق».