هل ينجح منهج السيطرة وإخضاع الأسواق في الاقتصاد المصري؟
(الشرق الاوسط)-05/02/2024
د. نبيل زكي*
تسلّم طارق عامر منصبه محافظاً للبنك المركزي المصري بدايةً من 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وقضى عاماً كاملاً يحارب ويصارع تجار وحيتان العملة الصعبة في مصر، وسعى بشتى الطرق الأمنية للقضاء على السوق السوداء التي انتعشت في البلاد نتيجة الضغوط على الدولار، لكن فشل طارق عامر في مساعيه لحل الأزمة الدولارية، وبلغت الفجوة بين السعر الرسمي للدولار في البنوك والسوق الموازية أكثر من 50 في المائة؛ حيث ارتفع سعر الدولار في السوق السوداء إلى 13 جنيهاً في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) 2016، في حين كان سعره الرسمي 8.8 جنيه.
وفي نهاية المطاف، لجأ عامر إلى أن يقترض من صندوق النقد الدولي ما قيمته 12 مليار دولار، على 3 سنوات وبشروط الصندوق المجحفة كعادته – وفي 3 نوفمبر 2016 أعلن تحرير سعر صرف الجنيه المصري في مسعى للقضاء على السوق السوداء، وكان رد فعل الأسواق عدوانياً جداً، فانخفضت قيمة الجنيه المصري بنسبة 57 في المائة فور إعلان البنك المركزي، وارتفع سعر الدولار في السوق السوداء إلى 18 جنيهاً. ولم تهدأ الأسواق إلا بعد فورة الاقتراض من سوق سندات اليوروبوند العالمي- مدعوماً بتأشيرة الدخول التي منحها الصندوق لمصر، وانهالت علية التقارير الوردية من قبل المؤسسات المالية ووكالات التصنيف الائتماني، فارتفع الدين الخارجي لمصر مباشرة بعد قرار البنك المركزي بنسبة 41.5 في المائة من 55.8 مليار دولار في يونيو (حزيران) 2016 إلى 79 مليار دولار في يونيو 2017.
حقيقة الأمر أن محاولة السيطرة وإخضاع السوق أثبتت فشلها وعدم فاعليتها في الأعوام السابقة، وأيضاً في تجارب الدول الأخرى؛ فشركات الصرافة العاملة في السوق الموازية كيانات غير رسمية، وتعمل بشكل متوازٍ من مصر وخارجها، مدعومة بقاعدة تمويلية ورؤوس أموال ضخمة من قبل منظمات ودول أكبر كثيراً من قدرات الحكومة المصرية، خصوصاً في ظل العجز المزمن والمستدام في الميزانين التجاري والمدفوعات، واعتماد مصر الدائم على الاستدانة لسد هذا العجز؛ حيث يقوم مندوبو هذه الشركات بالوصول للمصريين المغتربين في الخارج، والاتفاق معهم على سعر أعلى من الرسمي، وغالباً ما يكون التسليم نقداً حتى منازل ذويهم في مصر كلها بمدنها وريفها ونجوعها.
التاريخ يعيد نفسه في 1 فبراير (شباط) 2024 تجاوزت الفجوة بين سعر صرف الدولار بالبنوك 30.9 جنيه وبالسوق الموازية 130 في المائة، حيث سجل الدولار 70 جنيهاً. وكانت الاستراتيجية المفضلة لدى السلطات هي السيطرة على سعر الصرف في السوق الموازية قبل توحيد سعر الصرف، وذلك بتجريم ليس فقط التعامل في النقد الأجنبي، ولكن امتدت أنياب القانون إلى الحيازة (وهي كلمة دارجة فقط في أسواق السلاح والمخدرات).
وأيضاً شهدت أسواق الذهب في مصر حالة من الارتباك وصلت إلى شبه توقف لسوق تصل فيها التعاملات إلى أكثر من 65 طناً سنوياً، على رأسها المشغولات الذهبية التي تشكل أكثر من 90 في المائة من حجم هذه السوق، بعد الحملة على عدد من كبار تجار الذهب، بتهمة التلاعب بالأسعار وإشعالها، فضلاً عن اتهامهم بتخزين السبائك، والمسؤولية عن ارتفاع الدولار. وكل هذه الإجراءات أمنية بالدرجة الأولى، وتهدف إلى خفض الطلب على الدولار لحين ميسرة، بزيادة العرض من خلال الاقتراض الخارجي.
حيازة النقد الأجنبي
ينظم قانون البنك المركزي 194 لسنة 2020 حيازة النقد الأجنبي في مادته 212 التي تنص على أنه «لكل شخص طبيعي أو اعتباري أن يحتفظ بكل ما يؤول إليه أو يملكه أو يحوزه من نقد أجنبي، وله الحق في التعامل أو القيام بأي عملية من عمليات النقد الأجنبي بما في ذلك التحويل للداخل والخارج، وتتم هذه العمليات عن طريق البنوك أو عن طريق الجهات التي رُخص لها بذلك طبقاً لأحكام هذا القانون».
ويواجه المتهم بالاتجار في العُملة الصعبة عقوبة السجن مدة لا تقل عن 3 سنوات، ولا تزيد على 10 سنوات، وغرامة لا تقل عن مليون، ولا تجاوز 5 ملايين جنيه، أو المبلغ المالي محل الجريمة «أيهما أكبر».
كيفية التوفيق بين التجريم والإباحة
السؤال المطروح هو كيف يتسنى للبنوك في ظل نقص مواردها من العملة الصعبة أن تستوعب فتح خطابات اعتماد للعملاء لتلبية متطلبات الواردات من السلع ومستلزمات الإنتاج ومطالبتهم بترتيب الحصول على الدولارات من السوق الموازية؟
والأسوأ من ذلك أن بعض البنوك تطلب من العملاء تسليم 15 إلى 20 في المائة من مبالغ خطابات الاعتماد والتنازل عنها للبنك، وبالطبع يقوم المستورد بشراء الدولار بقيمة 120 في المائة من قيمة خطاب الاعتماد من السوق الموازية، ويقوم ببيع الـ 20 في المائة الإضافية إلى البنك بالسعر الرسمي 30.9 جنيه للدولار، محملاً فرق الخسارة إلى المستهلك النهائي؛ ما يفاقم من حدة التضخم.
وكان الأجدى للدولة أن تجرم ظاهرة «دولرة» المعاملات التجارية في مصر، حيث انتشرت مطالبة كثير من الشركات العقارية ووكلاء شركات السيارات عملاءها بسداد قيمة سياراتهم ووحداتهم السكنية بالدولار وليس بالعملة المحلية، وهذه مخالفة لقانون البنك المركزي (المادة رقم 126 من قانون البنوك رقم 88 لسنة 2003)، الذي يحظر التعامل بغير العملة المحلية داخل البلاد، ويضع المتعاملين تحت طائلة المساءلة. وهنا يجب تغليظ العقوبة التي لا تتجاوز 20 ألف جنيه.
أهمية الاستقرار في سوق الذهب
واقع الأمر أن إلقاء القبض على كبار تجار سوق الذهب لن يوقف انفلات ونزيف الدولار، وقد يضر بهذا القطاع المهم، إذ إن 90 في المائة من صناعة الذهب محلية، كما أن مصر أصبحت تلعب دوراً مهماً في سوق الذهب الإقليمية والدولية، إذ غدت من الموردين المهمين لبعض أسواق الخليج وأوروبا سواء من الذهب أو الأحجار الكريمة، بوصفهما مصدرين للدولار، وليسا سبباً في أزمته؛ فقد سجلت قيمة صادرات مصر من الذهب والحلي والأحجار الكريمة إلى 41 دولة 1.5 مليار دولار في 2023، منها 43 في المائة إلى الإمارات، و 40 في المائة الى كندا. ولأول مرة نمت صادرات مصر من الذهب والأحجار الكريمة لأميركا بنسبة 1528 في المائة. فبدلاً من محاولة التحكم في الطلب والعرض، لا بد من العمل الجاد على تعزيز الاستقرار، وإعادة بناء الثقة مع المستثمر المحلي والخليجي والأجنبي من خلال إجراءات وسياسات اقتصادية مدروسة تتميز بالشفافية والموضوعية والقابلية للتنفيذ، دون إظهار تخبُّط، والقفز من قرارات إلى قرارات في غضون أيام.
* أستاذ الاقتصاد الدولي والمالي بمعهد نيويورك للعلوم المالية