إندثار الإعلام الـمصـرفي في البُنُوك العربية لـماذا صمتت البُنُوك عن رواية قصصها؟
محمــد عــلي ثـامـر
كاتب وباحث إقتصادي
هذا سؤالٌ ممتاز ومُهمٌ جدَّاً، وفعلاً يُثير تساؤلاً جوهرياً في العلاقة بين القطاع المصـرفي والإعلام في عالمنا العربي؛ ففي عالم الإقتصاد الحديث، لم يعد الإعلام مجرّد أداة ترويجٍ، بل صار ركيزةً إستراتيجية في بناء الثِّقة المؤسسـية وصناعة الصُّورة الذَّهنية للقطاع المالي؛ غير أن المشهد العربي يشهد مفارقةً لافتة؛ فالوقت الذي يتسابق فيه العالم نحو بناء الصُّورة المؤسسـية، وتعزيز الشَّفافية عبر الإعلام، وتُخصّص البُنُوك العالمية وحداتٍ كاملة للإعلام المُؤسسـي، ويُعدّ هذا الإعلام جزءاً من إستراتيجية «الهوية المؤسسـية» التي تـمنح تلك البُنُوك مصداقيتها وإستدامتها.
أما في المنطقة العربية فتُسجّل بُنُوكها تراجعاً ملحوظاً في حضورها الإعلامي، حتى إن ما كان يُعرف يوماً بـ «الإعلام المصـرفي» بات اليوم شبه مُنقرض؛ فإختفت المجلات البنكية والنَّشـرات الدَّورية والمضامين الإعلامية التَّحليلية التي كانت تُعرِّف الجمهور بمنجزات هذه البُنُوك؛ مما جعل من غيابها ليس مجرد فراغ إعلاميّ فحسب، بل مُؤشـر على أزمة ثقافةٍ مصـرفيةٍ عربية ترى في الأرقام كل شـيء، وفي الكلمة عبئاً لا جدوى منه.
من الإعلام البنكي إلى الصَّمت المؤسسـي
في البداية نقول إن الإعلام المصـرفي هو كل جهدٍ اتصاليٍّ مُنظَّمٍ يهدف إلى تعريف الجمهور بسـياسات البنك، وخدماته، ومنجزاته، وتُعبِّر عن رُؤيته ورسالته وقيمه ومسؤوليته الاجتـماعية، سواءً عبر: مجلاتٍ داخلية ونشـراتٍ دورية تُوثِّق الإنجازات، وتشـرح الخدمات بلغةٍ مُبسَّطة، وتقارير سنوية تفاعلية وترويجية مُصمَّمة بإخراجٍ صحفيٍّ جذَّاب تُوضح الأداء المالي في سـياقٍ إجتـماعيٍّ وإقتصادي، ومقالاتٍ تحليليةٍ وتثقيفيةٍ تُنشـر في الصُّحف والمواقع الإقتصادية، أو عبر منصّاتٍ رقميةٍ إعلامية تقوم بالتوعية المالية والتَّواصل مع العُملاء، أو حتى عبر إنتاج موادٍ فلمية وتوثيقية تُبرز دوره الإقتصادي والإجتـماعي؛ ليُعد بذلك وسـيلةً مُهمَّةً للتَّواصل بين البُنُوك والعُملاء والجمهور العام، يمكن من خلاله تعزيز الثِّقة وبناء الصُّورة الإيجابية عنه.
وهذا ما كانت عليه مُعظم البُنُوك العربية إلى حدٍّ ما؛ فقبل عقدين من الزَّمن، كانت تصدر مجلاتٍ شهرية أو فصلية تُنشـر فيها أخبارها، وتقاريرها، وأنشطتها المجتـمعية، وتحمل على صفحاتها مقالاتٍ توعويةٍ ماليةٍ ومصـرفية تُخاطب القارئ بلغةٍ بسـيطة؛ واليوم، إختفت تلك الإصدارات كُلياً، بل وصارت المواقع الإلكترونية للبُنُوك تكتفي بإعلاناتٍ جامدة أو بأخبارٍ قصيرةٍ مُكرَّرة، بلا روحٍ ولا مضمونٍ توعوي أو تثقيفي؛ فقد تحوَّل الإعلام المصـرفي من نافذةٍ للتَّثقيف والتَّفاعل، إلى لافتةٍ دعائيةٍ محدودة التَّأثير.
الإعلام المصـرفي.. إنعكاسات الغياب
تتمثل أبرز الانعكاسات لغياب الإعلام المصـرفي في أي بنكٍ من البُنُوك العربية؛ وذلك من خلال الآتي:
- فقدان الذَّاكرة المؤسسـية: فالعديد من البُنُوك العربية التي تجاوز عمرها نصف قرن لا تـمتلك أرشـيفاً إعلامياً يُوثِّق مسـيرتها؛ ولا توجد سجلاتٍ مكتوبةٍ لتاريخها، ولا توثيقٍ مُصوّرٍ لإنجازاتها، وكأنها مؤسساتٍ بلا ذاكرة، وبلا تاريخ، وبلا منجزاتٍ أو بصماتٍ في بلدانها… إلخ.
- ضعف الثِّقة والهوية: حين لا يتحدث البنك مع مجتـمعه، يفقد جزءاً من هويته، وتبقى صُورته مُشوَّشةً في أذهان العُملاء والجمهور العام؛ فالثِّقة المصـرفية لا تُبنى فقط عبر أسعار الفائدة والخدمات، بل عبر الصُّورة الذهنية التي يصنعها الإعلام البنكي الذَّكي.
- إنفصال البُنُوك عن الإقتصاد الوطني: في الدُّول التي تعيش أزماتٍ إقتصادية أو صـراعاتٍ (مثل اليمن، وسوريا، والسُّودان)، كان يُمكن للإعلام المصـرفي أن يُؤدي دوراً وطنياً في التَّوعية والتَّوجيه، لكنه غاب؛ فخسـرت البُنُوك فرصتها لتكون طرفاً فاعلاً في الحوار الإقتصادي العام.
- أما البُعد الثَّقافي والنَّفسـي في هذا الغياب؛ فأحد الأسباب غير المُباشـرة لتراجع الإعلام المصـرفي هو التَّحفظ الثَّقافي العربي تجاه المال؛ وهناك نزعةٌ للسِّـرّية والخصوصية، تجعل هذه البُنُوك تـميل إلى الإنغلاق، كما أن الجمهور العربي نفسه لا يزال ينظر إليها بريبةٍ أو ببرود؛ مما يجعلها أقل حماسةً للإنفتاح الإعلامي.. وهكذا نشأ حاجزٌ نفسـيٌّ مُزدوج: البنك يخاف من التَّحدث، والجمهور لا يثق بما يقوله، وبين الطَّرفين ضاعت لغة التَّواصل واندثر الإعلام.
وبالمجمل العام؛ تكون نتيجة غياب الإعلام المصـرفي هو غيابٌ للذَّاكرة والهوية؛ فإختفائه لا يعني فقط غياب الإصدارات، بل فقدان الذَّاكرة المؤسسـية؛ فلا أحد يُوثِّق قصص النَّجاح، ولا يرصد مراحل النُّمو، ولا يروي كيف ساهمت البُنُوك في الاقتصاد الوطني؛ وبفضل هذا الصَّمت، فقدت البُنُوك العربية جزءاً من هويتها ومن قُدرتها على بناء الثِّقة مع الجمهور.
أين تكمن المشكلة.. دراسة حالة؟!
من خلال إستقرائي لواقع البُنُوك العربية، ومتابعتي الحثيثة لكل جديدٍ عنها؛ إلا أنها ويا للأسف الشديد قد أوقفت ما كانت تصدره من ذي قبل؛ كالمجلات والنَّشـرات والتَّقارير الدَّورية حول مبادئ العمل المصـرفي، والتي تعد وسائل توعويةً وتثقيفيةً لعامة الجمهور، ورفع وعيه بمفردات وتفاصيل العمل المصـرفي؛ فمثلاً كانت البُنُوك اليمنية تصدر (8) مجلاتٍ شهرية؛ إختفت كُلّها وإندثرت نهائياً؛ ولم تعد تجد أعداداً قديمة منها في أروقة هذه البُنُوك، بل تكاد تلقاها مرميةً كأكوامٍ من القش في الأرشـيفات.
ما الحل المقترح من نتاج الواقع؟!
تعرَّضت هذه البُنُوك لنتائج سيئة كنتاج لإندثار وسائلها الإعلامية من حيث ضعف الثِّقة مع الجمهور، وغياب الذَّاكرة المؤسسـية للبنوك (لا تاريخٌ مُوثَّقٌ ولا سـردية نجاحٍ مكتوبة ومُدوَّنة)، وبالتَّالي ضياع فرصة بناء الهوية والسُّمعة المُؤسسـية، وإنكماش العلاقة بين البُنُوك والإعلام الإقتصادي المُستقل؛ ولذا فالحلُّ يكمن في إستعادة الصَّوت المفقود، والحضور الإعلامي بشكلٍ عام، وليس بالضَّـرورة العودة إلى الإصدارات الورقية، بل في إعادة الإعتبار للإعلام المُؤسسـي كأحد أذرع القُوَّة النَّاعمة للقطاع المصـرفي، ويُمكن للبُنُوك أن تستعيد حضورها عبر إنشاء وحدات إعلامٍ مصـرفيٍّ مُتخصِّصةٍ ومُحترفة، وإعادة إصدار مجلاتٍ ونشـراتٍ إقتصاديةٍ إلكترونية، وتقارير سنويةٍ نوعيةٍ وتفاعلية، وتوظيف كوادر محترفة من صحافيين إقتصاديين ومحلّلين ماليين ومصمّمين فنيين لإنتاج محتوى إحترافي بأسلوبٍ مهني، ينتقل من لغة الأرقام الجافة إلى لغة الإنسان، وأن يروي قصص النَّجاح، والإبتكار، والتَّحدي، وأن يُظهر الوجه الإنساني للبُنُوك لا الجدار الزُّجاجي البارد خلف شبابيكها؛ فالبُنُوك ليس مجرّد مؤسساتٍ مالية، بل هي فاعلٌ إجتـماعيٌّ وإقتصاديٌّ وثقافي، لها رسالةٌ جليلة في دعم التَّنمية الوطنية، بل وشـريكاً في بناء المستقبل.
أضف إلى ذلك إطلاق منصّاتٍ إعلاميةٍ رقمية تفاعلية تتناول القضايا الاقتصادية بلغة الجمهور، وتعزيز الشَّفافية والإفصاح عن السِّـياسات والنَّتائج والمُبادرات من أجل أن تتحوَّل إلى مراجع اقتصادية موثوقة، وربط هذه الوسائل الإعلامية بجانب المسؤولية الاجتـماعية؛ فكل مشـروعٍ تنموي أو تعليمي أو بيئي هو مادة إعلامية ثرية تعكس القيم الحقيقية لهذه البُنُوك، وتطوير إستراتيجيات تواصلٍ مستـمرة لا تقتصـر على المناسبات أو الإعلانات؛ وإنما تظل مستمرةً على امتداد الأوقات.
وفي الختام، يتجلَّى لنا بأن عملية إندثار الإعلام المصـرفي في البُنُوك العربية ليس ظاهرةً عرضية، بل نتيجة تراكماتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ وإدارية جعلتها تفقد صوتها في الفضاء العام؛ وبالتَّالي فإن إستعادة هذا الصَّوت يتطلب ثورةً فكريةً داخل مجالس الإدارات، وفي أروقة ومكاتب الإدارات التَّنفيذية لهذه البُنُوك، تُعيد تعريف الإعلام بوصفه إستثماراً إستراتيجياً في الثِّقة والسُّمعة، لا عبئاً على الميزانية؛ ففي زمنٍ تتسارع فيه المعلومات وتتبدل فيه الإنطباعات، لا يُمكن لمؤسسةٍ ماليةٍ ومصـرفية أن تكون قويةً دون أن تكون حاضـرةً إعلامياً؛ فالإعلام ليس ترفاً، بل هو أداة وجودٍ وإستـمرارية، ولا يُمكن لبنكٍ أن ينجو بالصَّمت؛ فالبنك الذي لا يروي قصته، سـيترك الآخرين يروونها عنه، وربما بشكلٍ لا يريده.
