«البديل من أجل ألمانيا»…
صعود أحزاب يمينية متطرّفة «ديكست»: هل تُصبح ألمانيا «بريطانيا جديدة»؟
في خضمّ التحوّلات الدولية المتسارعة التي شهدتها بدايات التسعينيات من القرن العشرين، برزت دعوات قوية لتعزيز القومية الأوروبية وتحقيق التكامل الإقتصادي والتي ولّدت الإتحاد الأوروبي في العام 1993، في تتويج لمساعٍ دامت عقوداً من أجل بناء نموذج مالي وإقتصادي متكامل. وقد جاء إعتماد اليورو عملة موحّدة في العام 1999 ليكمّل هذا النموذج، وليُصبح رمزاً لوحدة أوروبية شاملة.
لكن بعد سنوات طويلة على هذه الولادة، بدأت التحدّيات تتراكم في وجه الإتحاد، أبرزها كان خروج بريطانيا الرسمي منه في يناير (كانون الثاني) 2020.
واليوم قد يتجدّد هذا التحدّي الكبير، والذي يتمثّل في صعود نجم الأحزاب اليمينية المتطرفة، كحزب «البديل من أجل ألمانيا» (إيه دي أف) الذي يُطالب هو أيضاً بالخروج من الإتحاد الأوروبي، في خطوة يُطلق عليها إسم «ديكست»، وهو إقتباس لمصطلح «بريكست» المستخدم لخروج المملكة المتحدة، وهو ما وضع ألمانيا في قبلة الأنظار، لا سيما وأن هذه الدعوة لقيت أصداء واسعة على إثر الإحتجاجات والإضرابات التي بات يشهدها أكبر إقتصاد أوروبي، وثالث أكبر إقتصاد في العالم، للفلاحين والسائقين بسبب التعديلات القانونية الأخيرة.
الإقتصاد يسبح «في مياه عكرة»
يسبح الإقتصاد الألماني «في مياه عكرة»، وفق توصيف وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، حيث إن توقعات الحكومة الألمانية قد تم تعديلها إنخفاضاً من 1.3% إلى 0.2% لعام 2024. وكان الإقتصاد الألماني إنكمش بواقع 0.3% في نهاية العام 2023 بسبب التضخُّم المستمر وإرتفاع أسعار الطاقة، وضعف الطلب الأجنبي، حيث إن ألمانيا كانت الدولة الوحيدة من بين دول مجموعة السبع التي شهدت إنكماشاً إقتصادياً خلال العام 2023.
وكانت ألمانيا تستورد ما نسبته 55% من غازها من روسيا، لكن إعتراف موسكو بإستقلال المنطقتين الإنفصاليتين المواليتين لروسيا في شرق أوكرانيا، دفع برلين إلى تعليق خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2»، وهو مشروع حيوي بالنسبة إلى ألمانيا كما روسيا. علماً أن هذا المشروع قد تسبّب على مدى سنوات، بخلافات بين الولايات المتحدة وألمانيا، المروّج الرئيسي للمشروع داخل الإتحاد الأوروبي، كذلك بين الأوروبيين، وأيضاً بين روسيا وأوكرانيا. علماً أنه كان من شأن هذا المشروع أن يُضاعف إمدادات الغاز الروسي إلى ألمانيا، التي بدأت في غضون ذلك تنويع مصادر إمدادها في السنوات الأخيرة.
وفي عامي 2020 و2021، صمدت ألمانيا أمام الآثار الاقتصادية المدمرة لجائحة «كوفيد – 19» بشكل أفضل من جيرانها في الإتحاد الأوروبي، ويعود ذلك إلى حد كبير إلى المجال المالي المتاح لها، والفائض الكبير في الحساب الجاري (232 مليار يورو في العام 2020 و266 ملياراً في العام 2021)، وحُزم التحفيز الإقتصادي السخيّة، وبرامج العمل المرن قصيرة الأجل التي أبقت معدل البطالة عند 5.7% فقط في صيف 2021.
وأدّى تخفيف قيود الوباء وإنتعاش قطاع الخدمات إلى نمو حقيقي في الناتج المحلي الإجمالي بلغ 2.8% في العام 2021، لكن التداعيات المترتبة على الحرب الروسية على أوكرانيا، أدّت إلى نمو أقل من المتوقع للناتج المحلي الإجمالي في العام 2022 بنسبة 1.9%.
ما هو حزب «البديل لأجل ألمانيا»؟
من رحم اليمين المتطرّف، ولد حزب «البديل من أجل ألمانيا» ليُشكل تحدياً غير مسبوق للنظام السياسي الألماني منذ الحرب العالمية الثانية، فما هو هذا الحزب الذي يُقلق الأحزاب التقليدية، ويُثير مخاوف الإستخبارات الداخلية، ويهدد مستقبل ألمانيا والإتحاد الأوروبي؟
لقد شهدت الساحة السياسية الألمانية مؤخراً تصاعداً ملحوظاً في شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» المناهض للمهاجرين، حيث إحتل الحزب المركز الثاني في إستطلاعات الرأي، متقدماً على تحالف الأحزاب الثلاثة الذي يقوده المستشار أولاف شولتس. وتشير إستطلاعات الرأي إلى أن الحزب يحظى بدعم يُراوح بين 18 و23% من الجمهور الألماني، ما يعكس تزايداً ملحوظاً في نفوذه.
هجوم لاذع… الإتحاد الأوروبي «مشروع فاشل»
شنّ الحزب هجوماً لاذعاً على الإتحاد الأوروبي خلال مؤتمره المنعقد في مدينة ماغدبورغ شرقي ألمانيا، واصفاً إياه بـ «المشروع الفاشل» الذي لا يُمكن إصلاحه. وإعتمد مئات من مندوبي الحزب نصّاً صريحاً يؤكد فشل الإتحاد الأوروبي في معالجة قضايا رئيسية مثل تغيُّر المناخ والهجرة، معرباً عن رفضه القاطع للعملة الموحدة (اليورو). كما طرح رؤيته لمستقبل أوروبا، داعياً إلى إنشاء «إتحاد للدول الأوروبية، ومجتمع إقتصادي ومصالح أوروبية جديدة تحافظ على سيادة الدول الأعضاء».
وأعلن الحزب في إقتراح: «لقد نفد صبرنا مع الإتحاد الأوروبي، فهو غير قابل للإصلاح بالمعنى الذي يريده حزب «البديل من أجل ألمانيا». وقالت رئيسة الحزب أليس فايدل: «إن حزبها سيُطالب بإجراء إستفتاء على مغادرة الإتحاد الأوروبي، إذا فاز في الإنتخابات، علماً أنه حصل على 10.3% من الأصوات في الإنتخابات الفيدرالية الألمانية لعام 2021».
تحذيرات قوية من كارثة إقتصادية
واجهت دعوات «حزب البديل من أجل ألمانيا» رفضاً قاطعاً من قبل الحكومة الألمانية وخبراء المال والإقتصاد، الذين حذّروا من تداعيات كارثية على البلاد.
وشنّ المستشار الألماني أولاف شولتس هجوماً عنيفاً على خطط الحزب، واصفاً أيّ تحرُّك للخروج من الإتحاد بأنه «أكبر مدمّر للثروة» يُمكن أن يحدث على الإطلاق في أوروبا وألمانيا، مشيراً إلى أن خروج بريطانيا من الإتحاد قبل أربع سنوات، أغرق المملكة المتحدة في كارثة إقتصادية.
ألمانيا تتجاوز اليابان!
رغم تحذير «البوندسبانك» من أن ألمانيا قد تدخل في ركود الآن مع ضعف الطلب الخارجي، وإستمرار حذر المستهلكين وتراجع الإستثمار المحلي، فإن ألمانيا تجاوزت اليابان مؤخراً لتُصبح ثالث أكبر إقتصاد في العالم. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى الإنخفاض الحاد في قيمة الين، إذ بلغ إجمالي الناتج المحلي الإسمي لليابان 4.2 تريليونات دولار في العام 2023، وهو ما يعادل نحو 591 تريليون ين. أما ألمانيا، فقد بلغ ناتجها المحلي 4.4 تريليونات دولار، أو 4.5 تريليونات يورو.
الإتحاد الأوروبي سيفقد معناه
شكّل الإقتصاد الألماني 24.9% من الناتج المحلي الإجمالي للإتحاد الأوروبي في العام 2022. كما تُعدّ ألمانيا أكبر سوق إستهلاكية في الإتحاد الأوروبي وأكبر شريك تجاري للولايات المتحدة في أوروبا، وسادس أكبر سوق لصادراتها. كما أن حجم التجارة، وعدد المستهلكين، والموقع الجغرافي في وسط الإتحاد الأوروبي يجعلها حجر الزاوية الذي تسعى كثير من الشركات الأميركية حوله لبناء إستراتيجيات التوسُّع الأوروبية والعالمية، فضلاً عن أنها كانت الوجهة الأكثر طلباً في أوروبا للإستثمار الأجنبي المباشر في العام 2023. وتستثمر ألمانيا أكثر من 30.3 مليار يورو، وهو ما يمثل 21.2% من إجمالي موازنة الإتحاد، وفقاً للبيانات الإحصائية الأوروبية.
في المحصّلة، لا شك في أن خروج ألمانيا من الإتحاد الأوروبي، سيُلحق أضراراً جسيمة في كل من ألمانيا والإتحاد الأوروبي، إذ ستفقد ألمانيا إمكانية الوصول إلى السوق الموحدة، ما سيُعوّق صادراتها، ويُهدّد فرص العمل، كما ستفقد جاذبيتها كوجهة إستثمارية، وستُواجه إضطرابات في سلاسل التوريد، فضلاً عن تآكل نفوذها السياسي، وغيرها الكثير. أما الإتحاد الأوروبي فسيفقد أكبر إقتصاد فيه، مما سيؤدي إلى إنخفاض ناتجه المحلي الإجمالي، وإنعدام مساهمات ألمانيا في موازنته، وزعزعة الإستقرار الإقتصادي والمالي له. فهل لألمانيا والإتحاد الأوروبي القدرة على تحمُّل هذه العواقب؟