البنوك المركزية في الأسواق الناشئة
تتفوّق على الإحتياطي الفيدرالي والمركزي الأوروبي
منذ بداية مسيرتي المهنية في الإقتصاد قبل أكثر من ثلاثة عقود، إعتدتُ دائماً عدم التقليل من شأن الإقتصادات الناشئة. فبقياسها على نحو سليم، وفقاً لأسعار صرف تعادل القوة الشرائية، لحقت الصين بالولايات المتحدة، كأكبر إقتصاد في العالم في العام 2014 (بدقة تصل إلى نقطة مئوية واحدة من حصة كل دولة في إجمالي الناتج المحلي العالمي، بل وتجاوزتها بشكلٍ حاسم في حلول العام 2018).
أعلم أن البعض سيعترض على أسعار صرف تعادل القوة الشرائية، وأن الأمور قد تبدو مختلفة عند إستخدام معدلات الصرف السوقية، ولكن تعادُل القوة الشرائية هو الطريقة الوحيدة الصحيحة لإجراء هذه المقارنة طويلة الأجل.
ولا يزال في إمكان الولايات المتحدة، أن تظل صاحبة أقوى إقتصاد في العالم، رغم إنتاجها الأقل من السلع والخدمات مُقارنة بالصين. وعلى نطاق أوسع، مثّلت الإقتصادات المُتقدمة أكثر 60 % من إجمالي الناتج المحلي العالمي في العام 1991، لكن هذه النسبة إنخفضت الآن إلى حوالي 40 % ورغم هذه الحقائق الإقتصادية، إلاّ أن فئة قليلة تعتقد أن الإقتصادات المتقدمة أمامها الكثير لتتعلمه من الأسواق الناشئة، في مجالات البنوك المركزية، وإدارة التضخم والإستقرار المالي.
وقال لي روبن بروكس كبير الإقتصاديين في معهد التمويل الدولي: «لقد أدارت الإقتصادات الناشئة الكُبرى السياسات النقدية بشكلٍ أفضل من الأسواق المتقدمة»، موضحاً أنها كانت أسرع في إكتشاف التهديد التضخمي، وأسرع كذلك في رفع أسعار الفائدة. كما حافظت على مصداقيتها أكثر من البنك الإحتياطي الفيدرالي، والبنك المركزي الأوروبي وبنك إنكلترا.
لم يكن ذلك رأيه وحده على الإطلاق. فقد ذكر صندوق النقد الدولي (على مضض نوعاً ما)، في تقريره الأخير عن آفاق الإقتصاد العالمي: «إن عملية صنع السياسات النقدية في العديد من (الإقتصادات الناشئة)، أصبحت تمتلك أدوات أفضل بكثير مما كانت عليه قبل 15 عاماً، لتكون ركيزة للإستقرار». ومن المستحيل تقريباً ألّا نتوصَّل لهذا الإستنتاج عندما ننظر إلى إستجابة السياسة النقدية لصدمة التضخم العالمي التي بدأت في نهاية العام 2020.
لقد بدأت البنوك المركزية في الأسواق الناشئة برفع أسعار الفائدة في أوائل العام 2021، أي بفارق عام تقريباً عن نظيراتها الكُبرى على جانبي المحيط الأطلسي. كما كانت على حق في قلقها حيال سلاسل التوريد العالمية، وحيال التضخُّم المستورد، حيث ضعفت عملاتها مُقابل الدولار الجامح، وإحتمال استمرارية ارتفاعات الأسعار.
ولم تكن البنوك المركزية في الدول الناشئة أسرع في الإستجابة لضغوط التضخم فحسب، بل كانت أسرع في تيسير سياستها بتخفيف أسعار الفائدة في البرازيل وتشيلي وبيرو وكوستاريكا والمجر وبولندا، كذلك في جورجيا وكازاخستان. وهكذا، فإن سرعة إجراءات هذه البنوك المركزية أمرٌ يستحق الثناء، لكن يجب أيضاً على الدواء أن يكون فعّالاً.
وتُظهر بيانات منفصلة من أكسفورد إكونوميكس، أن المعدلات الشهرية للتضخُّم الأساسي، بإستثناء أسعار المواد الغذائية والطاقة، قد إنخفضت بالفعل لتقترب إلى المستويات المرغوبة في الإقتصادات الناشئة الكُبرى في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا.
وبلا مُنازع، نشر معهد بيترسون للإقتصاد الدولي أكثر الأبحاث تفصيلاً حول ما قامت به البنوك المركزية في الأسواق الناشئة بشكلٍ صحيح. ويخلص البحث إلى أن بدء الإقتصادات الناشئة لعمليات تشديد السياسات النقدية في وقت مُبكر، سمح بأن تكون العملية أكثر تدريجاً، بحيث تكون مُسيطرة بشكلٍ أفضل على التضخم، وتمنح البنوك التجارية المزيد من الوقت للتكيُّف دون أن تنهار، على عكس بنكي «سيليكون فالي» و«كريدي سويس».ولفتت إلينا ريباكوفا، الباحثة غير المُقيمة في معهد بيترسون للإقتصاد الدولي، وأحد معدّي البحث، إلى أن مُفتاح الأداء الفائق يكمن في أن البنوك المركزية في الأسواق الناشئة لم تلتزم توجيهات مُستقبلية صارمة للحفاظ على سياسة نقدية مُتساهلة لفترة طويلة خلال الجائحة، وبالتالي، لم «تكتم إستجابتها للتضخم».والجديد في هذه الورقة البحثية، يتمثل في النظرة المُفصلة للغاية إلى إتصالات البنوك المركزية في الإقتصادات الناشئة، بإستخدام مختلف أشكال الذكاء الإصطناعي والتعلم الآلي. وإكتشفت الورقة البحثية، أن سلاسة القراءة وشفافية بيانات البنوك المركزية في الأسواق الناشئة، وغيرها من الإفادات الأُخرى، توازي مستوى الإحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي أو تتجاوزهما.
لكن الإختلاف هو أنه مع إنحسار الجائحة في نهاية العام 2020، إستجابت البنوك المركزية في الإقتصادات الناشئة لتهديد التضخم بشكلٍ أسرع، وكانت واضحة في بياناتها، ولم تعتمد على النماذج الإقتصادية البرّاقة الفاشلة، ولم تتعثر في قضايا جانبية.
وكانت دون مُنحنى التضخم، لكن ليست بعيدة. وبينما كانت البنوك المركزية للإقتصادات الناشئة تميل إلى المراوغة في الماضي، كانت هذه المرة حاسمة ومُتقدمة بشكلٍ كبير عن الإحتياطي الفدرالي والبنك المركزي الأوروبي.
وتعتبر إلينا ريباكوفا أنه كان ثمّة قدر من الحظ في هذا التقدُم، لأن العديد من الإقتصادات الناشئة، شهدت موجات تضخم في الآونة الأخيرة، لكنها أضافت أن «وضوح البيانات» والتركيز على ما يُهم فعلاً، كان أفضل بكثير من البنوك المركزية في الإقتصادات المتقدمة. وشدَّدت على أن النقطة الوحيدة التي لا تزال البنوك المركزية في الإقتصادات الناشئة بحاجة حقاً إلى تحسينها، هو إتباع أقوالها بالأفعال.
كريس جايلز – (محرر إقتصادى في «فاينانشيال تايمز»)