التباينات والصراعات سيستمر تأثيرها على الإقتصادين العالمي والعربي في 2024
إقتصادات دول الخليج واعدة رغم الضبابية وركود في لبنان وتونس ومصر والمغرب
حمل العام 2023 العديد من التطوُّرات الإقتصادية الإيجابية والسلبية على السواء لدول العالم ومنها الدول العربية، فالقراءة المتأنّية، تُظهر أن ما حصل فيها هي إمتداد لما شهده العقد الماضي من عدم الإستقرار المالي والإقتصادي على مستوى العالم، فقد شهد الإقتصاد العالمي أحداثاً شديدة السلبية، منها إنهيار أسعار النفط في منتصف العام 2014، ثم جائحة فيروس كورونا في نهاية 2019 وبداية 2020، فالتداعيات السلبية للحرب الروسية – الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، ثم طوفان الأقصى، وما تبعه من إعتداءات إسرائيلية وحرب إبادة في غزة، ومن الطبيعي أن يكون لكل هذه العوامل والأحداث تأثير على إقتصادات العالم والمنطقة العربية في العام 2024.
بلغة الارقام، توقع صندوق النقد الدولي حيال أداء النمو الإقتصادي العالمي في تقريره بعنوان «آفاق الإقتصاد العالمي- أكتوبر/تشرين الأول 2023»، أن يكون النمو الإقتصادي العالمي الحالي هشّاً، وألاّ يتعدّى 3% في العام 2023، و2.9% فقط في العام 2024، مشيراً إلى أن التضخُّم سيصل إلى حدود 5.9% في العام 2023، بينما سيتراجع إلى 4.8% في العام 2024.
بحسب الخبراء، لقد عانى الإقتصاد العالمي خلال العام 2023 مشكلات إقتصادية عدة، منها إستمرار إرتفاع أسعار الفائدة، وخصوصاً في السوق الأميركية، وهو ما أثّر بشكل كبير على أسواق المال، ورفع من تكلفة التمويل في العديد من الدول النامية والصاعدة. وترجع الأزمة في جذورها إلى أحداث الحرب الروسية – الأوكرانية في نهاية فبراير/شباط 2022، وما تبعها من إرتفاع كبير في أسعار النفط والغاز، ثم إرتفاع في تكلفة أسعار الغذاء، وهو ما أثار مخاوف تكرار أزمتي الطاقة والغذاء التي عاشها الإقتصاد العالمي في عامي 2006 و2007. وقد تصاعدت معدّلات التضخُّم إلى مستويات غير مسبوقة في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث وصلت المعدلات آنذاك إلى 9.1%، وهو ما جعل صانع السياسة المالية، يُفعّل آلية سعر الفائدة ليمتص التضخُّم المرتفع، حيث إتخذ سعر الفائدة مساراً تصاعدياً حتى وصل الآن إلى نطاق 5.25% – 5.5%، قبل أن يُقرّر المجلس الفدرالي الأميركي تثبيته عند هذا المستوى، في آخر إجتماع له في ديسمبر/كانون الأول 2023.
معدَّلات النفط الغامضة
منذ يناير/كانون الثاني 2023 وأسواق النفط تعيش تقلّبات متكرّرة، تارة بسبب ضعف أداء النمو الإقتصادي، وطوراً بسبب أحداث سياسية متعدّدة الجوانب، إلاَّ أن ما يتعلق ببيانات إقتصادية تخصُّ أميركا أو الصين، كان له أثر السحر في تحريك أسعار النفط صعوداً وهبوطاً. ورغم أن أسعار النفط ما بين يناير/كانون الثاني ومايو/أيار 2023 كانت متماسكة عند متوسط 85 دولاراً للبرميل، حيال الخام برنت، إلاَّ أنه من مايو/أيار وحتى سبتمبر/أيلول من العام عينه، فقد شهدت تلك الفترة تراجعاً ملحوظاً حتى وصلت إلى 72 دولاراً للبرميل.
واقع الإقتصاد العربي
يرى الخبراء، أن الواقع الإقتصادي للدول العربية، يجعل من الصعب وصفه بأنه إقتصاد متجانس، لا من حيث الأداء، ولا من حيث النتائج، فهناك الدول النفطية – ولا سيما دول الخليج والعراق والجزائر وليبيا – لها بنيتُها وهيكلها الإقتصادي والمالي. وهناك دول غير نفطية لكنها صاحبة إقتصادات متنوّعة مثل مصر، والمغرب، والأردن، وتونس، ولبنان، ودول شديدة الفقر أو أقل نمواً مثل السودان وموريتانيا واليمن، وجيبوتي والصومال وجزر القمر.
وبالنسبة إلى الإقتصادات النفطية، فإن وضعها المالي كان أفضل خلال العام 2023، بسبب أسعار النفط التي مكّنت معظم الدول النفطية من تحقيق فوائض مالية، وتحسين أرصدتها من النقد الأجنبي، كما قلّلت من ظاهرة الإستدانة الخارجية، وإن كانت مشكلات هذه الإقتصادات أزلية، من حيث إعتمادها على النفط الخام بشكل كبير. أما بالنسبة إلى الدول صاحبة الإقتصادات المتنوّعة، التي تُصنّف كذلك بأنها متوسطة الدخل، ففي غالبيتها تعاني أزمة تمويل، يُمكن وصفها بالخانقة في مصر وتونس.
أما في لبنان فيُعد الأمر عصياً عن الحل، رغم حالة التفاؤل، وذلك بعد التوصُّل إلى إتفاق حيال الحدود البحرية، وتمكين إسرائيل من التنقيب عن الغاز في الحدود المشتركة، لكن إلى الآن، لم يتوصَّل لبنان إلى إتفاق مع صندوق النقد الدولي، رغم مطالبة الأخير بتسريع الإصلاحات الإقتصادية في هذا البلد على أكثر من صعيد، كما أن وضعه المالي العام ومستوى معيشة الأفراد لا يزالان شديدي السلبية. وفي المغرب والأردن، نجد أن البلدين يمرّان بمشكلات إقتصادية، لكنهما لا يجدان صعوبات في الحصول على تمويلات من المؤسسات الدولية، خلافاً لما عليه الحال في كل من مصر وتونس ولبنان. وهناك مكوُّن مهم من الإقتصادات العربية، حيث عانى أزمات إقتصادية وإجتماعية خلال العام 2023، بسبب النزاعات المسلحة، وهي ليبيا وسوريا واليمن والسودان والصومال والعراق، وإن كانت حدّة المشكلة تختلف من بلد إلى آخر. علماً أن الجديد بالنسبة إلى السودان، فهو أنه يتَّجه بشدّة نحو تفكُّك الدولة، وخضوع موارده الإقتصادية للأطراف المتنازعة.
«طوفان الأقصى» وتداعياته الإقتصادية
يلفت الخبراء، إلى أن البعض قد يقرأ التداعيات الإقتصادية السلبية لـ «طوفان الأقصى»، على الجانب الإسرائيلي، في شكل توقُّف بعض الأنشطة التجارية والإقتصادية لديه أو إختلال وضعه المالي، بسبب تكلفة الحرب، وخسائره العسكرية في العتاد والموارد البشرية. كما قد يتم حصر قراءة الأوضاع من جانب التأثير على شعب غزة، ولا سيما بما يتعلق بهدم المباني، وتدمير البنية التحتية، وإراقة دماء آلاف الضحايا ما بين قتلى وجرحى، وخصوصاً في صفوف الكوادر العلمية. علماً أن لإعتداءات إسرائيل الدامية والمدمّرة على غزة، تداعيات خطرة ومؤلمة، لن تظهر إلاّ بعد إنتهاء العمليات العسكرية.
إستشراف الأوضاع الإقتصادية في العام 2024
بحسب الخبراء، يدخل الإقتصاد العالمي في العام 2024، وسط ضبابية في كافة القضايا المثارة خلال العام 2023. فلم يتم التوصُّل إلى تسوية في ما بين القوى الإقتصادية الكبرى (أميركا والصين)، كما أن كلا البلدين، لم يتخلَّصا من مشكلاتهما الإقتصادية الداخلية، والتي تُكبّل دور كل منهما في تحقيق حالة رواج أو إنتعاش للنمو الإقتصادي العالمي، وخصوصاً الصين، التي تتفاقم فيها أزمة الديون الداخلية.
وقد تساعد سياسة أميركا الخاصة بسعر الفائدة، وإحتمالات أن تشهد إتجاهاً نزولياً؛ في تخفيف وطأة تكلفة التمويل، وهو ما يُسهم بشكل ما في تخفيف حدّة الأوضاع المالية للدول الصاعدة والنامية.
وعلى الصعيد العربي، لا يلوح في الأفق، أي تعاون إقتصادي عربي، يُمكن أن يزحزح حالة التبعية للمنطقة ككل للخارج، أو يُؤدي إلى إستثمار أفضل للموارد الإقتصادية المتاحة. كما أن دول النزاع في المنطقة العربية، كذلك الدول الأشد فقراً، تنتظر التدخلات الخارجية، في وقت لا تتوافر الإرادات الداخلية لتسوية الأزمات القائمة. في هذا السياق، وجّهت مجلة «إتحاد المصارف العربية» سؤالاً عن مستقبل الإقتصادات العربية في العام 2024، الى كل من الخبير في التنمية والسياسات الإجتماعية ومكافحة الفقر، الدكتور أديب نعمة، وإلى الخبير الإقتصادي ميشال قزح، فكانت قراءتهما متقاربة لجهة أن إقتصادات الدول العربية ستكون إمتداداً لما عاشته على إمتداد السنوات السابقة، سواء لجهة البحبوحة (دول الخليج) أو التعثُّر الإقتصادي (سوريا، لبنان، تونس ومصر).
الخبير الدكتور أديب نعمة: الدول الواقعة تحت حالة حرب وصراع
لا إشارة حيالها بأن وضعها سيتحسَّن في المدى المنظور يرى نعمة، أنه «يجب التمييز في عملية التوقعات بين المديين القصير والبعيد»، مشدّداً على أن «التوقعات هنا، تصبح مختلفة سواء في الموضوع الإقتصادي أو المعيشي- الإجتماعي، ففي العامين 2024 و2025 لن يكون هناك تغيير حيال الوضع الحالي راهناً. ففي المنطقة العربية هناك دول تعاني وضعاً صعباً جداً، فيما دول أخرى تعيش وضعاً أحسن بقليل».
يُضيف نعمة: «إن مجموعة الدول التي تعاني راهناً، حالة حرب وصراع أهلي أو خارجي، لا إشارة حيالها بأن وضعها سيتحسّن في المدى المنظور، إذ نلاحظ (على سبيل المثال لا الحصر)، أن وضع اليمن شديد التدهور، فيما معدّلات النمو الإقتصادي فيها سلبية، ولا يُتوقع أن يتغيَّر هذا الأمر حتى لو حصلت أُعجوبة وتوقفت الحرب، إذ لن يتغيَّر الوضع الإقتصادي والإجتماعي القائم فيها، لأنه يحتاج الى وقت ليتحسّن»، لافتاً إلى أن «هذا الأمر ينطبق على سوريا والسودان وليبيا، إذ لدى هذه الدول معاناة كبيرة.
علماً أن المؤشّر الإقتصادي يُمكن ألاّ يُعبّر عن حقيقة الوضع الراهن، بمعنى أن دولة مثل ليبيا، لديها معدّلات نمو إقتصادي بنسبة 12.5%، وهي من أعلى المعدّلات في المنطقة العربية. لكن هذا لا يعني أن وضعها الإجتماعي والمعيشي جيد. والتفسير لحالة ليبيا يُفيد أنه، رغم كل ما يحصل، فإن تصدير النفط ودخول العملة الصعبة، ينعكسان إيجاباً على النمو».
ويشير نعمة الى أن «هناك دولاً تعاني مشاكل مختلفة، مثل فلسطين، وتحديداً غزة والضفة، إذ يُتوقع أن الدمار الحاصل سينقشع على نحو أكثر فظاعة وفداحة، ما بعد وقف إطلاق النار، وهذا يعني أن غزة مدمّرة بشكل شبه كامل، والضفة الغربية مجزّأة إلى أكثر من 650 جزيرة بسبب المستوطنات، ولا أفق فيها لأي نمو إقتصادي أو لأي تحسُّن في الوضع المعيشي»، مستدركاً أن «هناك دولاً أخرى تعاني إنهياراً وصعوبات من نوع مختلف، ففي لبنان مثلاً، هناك إنهيار شامل، ومن غير المتوقع أن نشهد تحسُّناً في العام 2024. كذلك تعاني تونس وضعاً متدهوراً، فيما تشهد مصر تضخُّماً متزايداً، ولا مؤشرات على التحسُّن، لذلك فإن معظم الدول العربية والمنطقة ككل ستشهد صعوبات على هذا الصعيد».
ويوضح نعمة أن «الديون هي من المؤشّرات الخارجية التي يُمكن إضافتها إلى ما سبق، وهي مرتفعة في دول عدّة مثل لبنان وتونس ومصر. فعبءُ الديون في هذه الدول، يصل إلى نسبة 150% من الناتج المحلي، فيما الدول التي يُعتبر وضعها مرتاحاً قليلاً، تصل نسبة عبء الديون فيها إلى 60 و70% من الناتج المحلي، كما هي الحال في تونس والمغرب»، معتبراً أنه «حتى دول الخليج، كما هي الحال في مملكة البحرين، فتُعتبر من الدول الشديدة المديونية، إذ تعاني عبء دين قوياً.
في الخلاصة: هناك دول، يُعتبر وضعها الإقتصادي أفضل قليلاً، ولا سيما دول الخليج، رغم أنها تملك موارد، وتحاول القيام بخطط وإستثمارات كبيرة وما شابه ذلك، وهذا يعني في المدى المباشر، سيؤدي إلى تحسُّن. لكن يجب التعمُّق في الخصائص البنيوية لهذه الدول، والنشاط الإقتصادي الخاص بها، كي نتمكَّن من الحكم، فيما إذا كان على المدى المتوسط، أي ما بين 5 و7 سنوات، سيكون هذا التحسن، قابلاً للإستمرار أم لا».
يرى نعمة أنه «يجب أن نراقب إذا كان هذا الإستثمار الذي يحصل، سيُصاحبُه إرتفاع في نسب التضخُّم المعيشي أم لا، لأنها عوامل يجب أن تؤخذ في الإعتبار، إضافة إلى الإعتبار الكبير لحجم العمالة الوافدة. لأن تحليل هذه العوامل السابقة، فضلاً عن العمالة الوافدة، التي يُمكن أن تصل إلى نسبة 50 و70% من القوى العاملة في أي بلد، ولا سيما في قطر والبحرين والكويت والامارات، فإن التقييم حيالها سيكون مختلفاً»، مشدّداً على أنه «على الأقل، في المدى القصير، أي في العام 2024 راهناً سيستمر الوضع المشار إليه في تلك الدول المذكورة، إذ سيحمل علامات لإستثمارات كبيرة، وصورة زاهية عن إزدهار بعض الدول.
لكن غالبية الدول، ستكون إما في وضع أزمات إجتماعية وإقتصادية أو في حالة حرب أو نزاع. أما الدول التي وضعها التي سيكون على نحو أفضل، فإنها ستعاني ثغرات هيكلية، يُمكن أن تمنحنا نتائج سلبية في المديين المتوسط والبعيد».
الخبير الإقتصادي ميشال قزح: هناك غيرة إيجابية بين الدول العربية حيال تنفيذ المشاريع الإستثمارية
يرى الخبير الإقتصادي ميشال قزح لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أنه «بالنسبة إلى مستقبل الإقتصادات العربية، فإن الدولة الأولى في المنطقة، هي المملكة العربية السعودية، وذلك نتيجة المشاريع الإقتصادية والعمرانية التي تنفّذ ضمن رؤية 2030 و2040»، لافتاً إلى أن «هذه المشاريع تُنفّذ في ظل حوكمة ورؤية، تُدعى «إقتصادية، رأسمالية، ليبرالية، حرَّة»، وتُشبه إقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا، وهذا الأمر لم نكن نراه في المنطقة، إلاّ في دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت ولا تزال مثالاً يُحتذى في المنطقة».
يُضيف قزح: «إن طريق الهند نحو الشرق الأوسط والمملكة العربية السعودية، يُعتبر خطاً ممتازاً في المرحلة المقبلة، فيما الدول العربية بدأت توظيف إستثماراتها المالية في بلدانها وليس في الخارج، كما كان يحصل سابقاً، وهذا أمر مهم، أي في مشاريع إستثمارية وبُنى تحتية».
ويختم قزح: «هناك غيرة إيجابية في ما بين الدول العربية، حيال تنفيذ المشاريع الإستثمارية، وهذا أمر جيد، فيما المنطقة العربية مقبلة على إزدهار كبير، ولا شك في أن التحوُّلات العالمية حيال الصين، سيكون لها تأثير على المنطقة، ولكن علينا الإنتظار قليلاً لإستيضاح الصورة على نحو أفضل».