التحدّيات التنظيمية العالمية تفتح مسارات
جديدة للعمل المصرفي العربي

تُواجه المصارف العربية والبنوك المراسلة تحدّيات متزايدة نتيجة تشديد تطبيق المعايير التنظيمية العالمية إلى جانب العقوبات الإقتصادية والتجارية. وفي ظل هذا الواقع المتسارع والمعقّد، يبرز التكامل المصرفي العربي كخيار إستراتيجي أساسي لمواجهة هذه التحدّيات، والحدّ من المخاطر المتبادلة بين المصارف العربية.
لقد أصبحت إدارة المخاطر اليوم ركيزة مؤسسية شاملة تتجاوز كونها وظيفة تقنية متخصّصة، إذ باتت تمتد إلى عمق الهيكل المصرفي وتؤثر في مختلف مستوياته التشغيلية والإستراتيجية. وهذا التحوّل يفرض على المصارف العربية التعامل بمرونة وإحترافية مع بيئة مالية تتّسم بتشابك العوامل وتعدُّد التحدّيات.
وإنطلاقاً من هذا الواقع، نظّم إتحاد المصارف العربية مؤتمراً مصرفياً عربياً – أميركياً رفيع المستوى تحت عنوان «الحوار المصرفي العربي – الأميركي» وذلك بهدف مناقشة التحدّيات المحورية التي تُواجه المصارف العربية في مجالات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتعزيز الإمتثال للمعايير الدولية، إلى جانب تعزيز قنوات الحوار والتعاون بين المصارف العربية ونظيراتها الأميركية، والبنوك المراسلة، والجهات الحكومية والرقابية الاميركية، بما يُسهم في ترسيخ جسور التواصل وتطوير آفاق العمل المصرفي المشترك.
وقد عُقد المؤتمر في خريف العام 2025 في نيويورك، بالتعاون مع البنك الفدرالي الأميركي في نيويورك (FRBNY)، وبمشاركة وزارة الخزانة الأميركية، وصندوق النقد الدولي، إلى جانب كبرى المصارف الأميركية المراسلة وعدد من المؤسسات المالية الدولية الأخرى.
وقد ركّزت جلسات المؤتمر على مناقشة جملة من القضايا المحورية التي تشغل الساحة المصرفية العربية والعالمية، من أبرزها: تعزيز وتحديث برامج مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في المؤسسات المالية، وضمان إستدامة الوصول إلى خدمات البنوك المراسلة في ظل تصاعد متطلّبات الإمتثال والتحدّيات المستجدّة، إضافة إلى حوكمة البيئة المالية الرقمية وتوظيف تقنيات الذكاء الإصطناعي لدعم الإمتثال والنزاهة. وقد عكست هذه المحاور أهمية الملفات في صوغ مستقبل العمل المصرفي وتعزيز مكانة المصارف العربية ضمن المنظومة المالية العالمية.
وجاء إنعقاد هذا المؤتمر بالتزامن مع الإجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي. وفي هذا الإطار نظم إتحاد المصارف العربية حفل إستقبال في العاصمة الأميركية واشنطن، حيث شهد مشاركة رفيعة المستوى من شخصيات مصرفية عربية وأوروبية وأميركية، ومسؤولين أميركيين، إلى جانب قيادات من صندوق النقد العربي وصندوق النقد الدولي، واللجنة الإقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، وسفراء الدول العربية لدى واشنطن، وممثلين بارزين عن الأوساط الأكاديمية وقطاع الأعمال. وقد شكل هذا اللقاء منصّة مهنية مميّزة للحوار وتعزيز جسر التواصل مع المجتمع المالي الدولي.
ويأتي هذا الحدث في مرحلة دقيقة تمرّ بها المنطقة، تتّسم بتزايد مستويات التعقيد والمخاطر في البيئة المالية والمصرفية، نتيجة مجموعة من العوامل الجيو – إقتصادية، وسياسية، وتحدّيات هيكلية متراكمة، والتي إنعكست على أداء الأسواق المالية الإقليمية ورفعت من منسوب عدم اليقين في البيئة الإستثمارية.
في هذا السياق، أصبحت مسألة تقييم المخاطر تحظى بإهتمام متزايد من المنظمات والمؤسسات الدولية التي تسعى إلى بلورة مفاهيم واضحة تُمكّنها من صوغ سياسات أكثر فعّالية للتعامل مع هذه القضية التي باتت تحتل موقعاً متقدماً في أجندات المؤسسات المالية، ولا سيما المصارف. وتنطلق في هذا الإطار المباحثات العربية بالتعاون مع صندوق النقد الدولي نحو ترسيخ مبدأ إدارة المخاطر بإعتباره سياسة إستراتيجية شاملة، وليس مجرّد إجراء تنظيمي أو تقني يقتصر على تلبية متطلّبات الإبلاغ الدولية الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
إن الإلتزام الصارم بالمعايير المصرفية الحديثة، في ظل التطوّر التكنولوجي المتسارع، يشكل عنصراً حاسماً في تمكين المصارف العربية من مواكبة التحوّلات العميقة التي يشهدها النظام المالي العالمي، والمساهمة بفاعلية في رسم مساره المستقبلي.

 
 