يتبنّى صندوق النقد الدولي رؤية أكثر تحفظاً ويتوقع نمواً يقارب 2 % في المدى المتوسط
التوجُّه الإستراتيجي للإستقرار المالي والإجتماعي في ليبيا
لا يزال يتسم بالإعتماد المفرط على العائدات النفطية
وتذبذب مستويات النمو وإرتفاع معدلات البطالة
يشكّل الإصلاح الإقتصادي في ليبيا ضرورة إستراتيجية لضمان الإستقرار المالي والإجتماعي في ظل واقع إقتصادي وسياسي معقّد، يتسم بالإعتماد المفرط على العائدات النفطية، وتذبذب مستويات النمو، وإرتفاع معدلات البطالة. ورغم التحسُّن النسبي في بعض المؤشرات الكلية، مثل إنخفاض التضخم إلى نحو 2 % في العام 2024 وإستقراره المتوقع عند مستويات قريبة في 2025، إلاّ أن التحدّيات الهيكلية المتمثلة في ضعف التنويع الإقتصادي، وإرتفاع معدّلات البطالة الى 18.6 % في العام 2024، وإستمرار مستويات مرتفعة من الفساد، لا تزال تحدّ من إمكانات النمو المستدام.
وقد أظهرت التقديرات الصادرة عن المؤسسات الدولية تبايناً في توقعاتها لمستقبل الإقتصاد الليبي، حيث يتبنّى صندوق النقد الدولي رؤية أكثر تحفظاً، متوقعاً نمواً يقارب 2 % في المدى المتوسط مع تحسُّن تدريجي للقطاع غير النفطي بمعدل بين 5-6 %، بينما يقدم البنك الدولي توقعات أكثر تفاؤلاً، مرجّحاً إنتعاش النمو إلى نحو 9.6 % في العام 2025 و8.4 % في العام 2026 مدفوعاً بزيادة إنتاج النفط.
المؤشرات الإقتصادية الكلية
شهد الإقتصاد الليبي خلال العام 2024 حالة من التباطؤ الملحوظ نتيجة تراجع إنتاج النفط، وهو ما إنعكس على معدّل النمو الإقتصادي الذي انكمش بنحو 2.9 %، ليتراجع الناتج المحلي الإجمالي إلى حوالي 46.64 مليار دولار. ومع ذلك، أظهرت البيانات تحسناً في الربع الرابع من العام 2024، مدفوعاً بارتفاع إنتاج النفط بنسبة تقارب 35 % بعد حل الأزمة المرتبطة بالمصرف المركزي.
وتتباين توقعات المؤسسات الدولية بشأن الأداء الإقتصادي في العام 2025، حيث يرجّح البنك الدولي عودة النمو إلى مستويات مرتفعة قد تصل إلى نحو 9.6 % مدفوعاً بزيادة إنتاج النفط والغاز، بينما يشير صندوق النقد الدولي إلى إمكانية تحقيق نمو مزدوج على المدى القصير، قبل أن يتراجع تدريجياً ليستقر عند نحو 2 % في المدى المتوسط، مع إستمرار نمو القطاع غير النفطي بمعدل يتراوح بين 5 و6 %. كما يتوقع البنك الإفريقي للتنمية أن يبلغ النمو 6.2 % خلال العام 2025 في حال إستقرار مستويات الإنتاج النفطي.
أما على صعيد الأسعار، فقد حافظ معدل التضخُّم على مستويات منخفضة نسبياً خلال العام 2024 ليسجل نحو 2.1 %، مع توقعات بإرتفاعه الطفيف إلى حوالي 2.6 % في العام 2025، مدعوماً بإستقرار نسبي في أسعار السلع الأساسية والسياسات النقدية الحذرة. وفي ما يتعلق بسوق العمل، فقد إستقرت معدّلات البطالة عند مستويات مرتفعة نسبياً بلغت نحو 18.6 % في العام 2024، وسط تحدّيات هيكلية في خلق فرص عمل كافية، ويُتوقع أن تنخفض تدريجاً إلى نحو 15.5 % في العام 2025 إذا ما إستمرّت جهود التحفيز الإقتصادي وتوسيع النشاط في القطاعات غير النفطية.
أما في ما يخص سعر الصرف، فقد شهد الدينار الليبي تخفيضاً في قيمته بنسبة 13.3 % في أبريل/ نيسان في العام 2025، ليصل السعر الرسمي إلى نحو 5.5677 دينار مقابل الدولار، في حين سجل في السوق الموازية نحو 7.20 دينار، وهو ما يعكس استمرار الضغوط على العملة المحلية رغم الخطوات الإصلاحية. ويظل الإقتصاد الليبي معتمداً بصورة كبيرة على النفط الذي يمثل ما بين 80 و95 % من الإيرادات الحكومية، في وقت تحاول فيه الدولة تنويع مصادر الدخل وتعزيز القطاعات الإنتاجية الأخرى.
القطاع النفطي والقطاع غير النفطي في ليبيا
يُعد القطاع النفطي العمود الفقري للإقتصاد الليبي، إذ يساهم بما يُراوح بين 80 و95 % من إجمالي الإيرادات الحكومية والصادرات، ويشكّل المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية في البلاد. ويعتمد الأداء الإقتصادي الكلي بدرجة كبيرة على تقلُّبات هذا القطاع، سواء من حيث حجم الإنتاج أو أسعار النفط في الأسواق العالمية. وفي العام 2024، واجه قطاع النفط الليبي ضغوطاً ملحوظة تمثلت في إنخفاض الإنتاج بسبب الإضطرابات السياسية والمشكلات الفنية، وهو ما إنعكس على معدّلات النمو العام. إلاّ أن الربع الأخير من العام 2024 شهد تحسُّناً ملموساً بزيادة الإنتاج بنسبة تقارب 35 % بعد التوصُّل إلى تسوية لأزمة المصرف المركزي، ما ساهم في تحسين التدفقات المالية ورفع التوقعات حيال الأداء الإقتصادي في العام 2025.
ورغم هذه الأهمية المحورية للقطاع النفطي، فإن الإعتماد المفرط عليه يشكّل خطراً على الاستقرار الاقتصادي في المدى الطويل، خصوصاً في ظل تقلُّب أسعار النفط وتعرُّض الإنتاج لإضطرابات متكرّرة نتيجة الإنقسامات المؤسسية والأمنية. لهذا، تبرز الحاجة الملحّة إلى تنويع مصادر الدخل عبر تطوير القطاعات غير النفطية، وعلى رأسها الزراعة والصناعة التحويلية والخدمات. فقد أظهر القطاع غير النفطي في العام 2024 قدرة نسبية على دعم النشاط الإقتصادي، إذ حقّق نمواً لافتاً في بعض المجالات مثل التجارة والخدمات المالية والإنشاءات، مدعوماً بزيادة الإنفاق الحكومي والخاص. وتتوقع المؤسسات الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أن يواصل هذا القطاع نموه بمعدل يُراوح بين 5 و6 % سنوياً خلال السنوات المقبلة، إذا ما تم توفير بيئة أعمال مستقرة وتشريعات داعمة للإستثمار.
كما يُنظر إلى القطاع غير النفطي بإعتباره حجر الزاوية في إستراتيجية الإصلاح الإقتصادي، نظراً إلى دوره في خلق فرص عمل جديدة، والحدّ من معدّلات البطالة المرتفعة، وتعزيز الأمن الغذائي، وتحقيق قدر أكبر من التنويع الإقتصادي الذي يقلّل من المخاطر المرتبطة بأسواق النفط العالمية. ومع ذلك، فإن تطوير هذا القطاع يتطلب استثمارات كبيرة في البنية التحتية، وتحسين كفاءة المؤسسات، ومحاربة الفساد، إلى جانب بناء شراكات مع القطاع الخاص المحلي والأجنبي لدفع عجلة الإنتاج وتنويع القاعدة الإقتصادية.
التوجهات الإستراتيجية للإصلاح الاقتصادي في ليبيا
يشكّل الإصلاح الإقتصادي في ليبيا عملية شاملة تتطلب توازناً بين الأبعاد المالية والنقدية والهيكلية والإجتماعية، بهدف تحقيق إستقرار مستدام وتعزيز قدرة الإقتصاد الوطني على مواجهة الصدمات. ويبدأ هذا المسار من الإصلاح المالي والنقدي الذي يمثل الركيزة الأساسية لإعادة الانضباط إلى الاقتصاد الكلي، حيث تسعى السلطات إلى ضبط الإنفاق العام وتنويع مصادر الإيرادات بعيدًا عن الاعتماد المفرط على النفط الذي يشكل أكثر من 80 % من الإيرادات الحكومية. ويشمل ذلك إصلاح النظام الضريبي، وتوسيع القاعدة الضريبية لتشمل الأنشطة غير النفطية، وإعادة توجيه الإنفاق نحو مشروعات البنية التحتية والخدمات الأساسية.
وعلى الصعيد النقدي، إتخذ مصرف ليبيا المركزي في نيسان/ أبريل من العام 2025 خطوة جريئة بتخفيض قيمة الدينار بنسبة 13.3 % ليصل إلى 5.5677 دينار مقابل الدولار، بهدف تقليص الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق الموازية، والحفاظ على الإحتياطات الأجنبية، رغم ما قد يترتب عن ذلك من ضغوط تضخمية مؤقتة.
ويتكامل الإصلاح المالي والنقدي مع الإصلاح الهيكلي الذي يركز على إعادة تنظيم مؤسسات الدولة والشركات المملوكة لها، والتي تمثل نسبة كبيرة من النشاط الإقتصادي لكنها تعاني ضعف الكفاءة وتدنّي مستويات الحوكمة. ويتطلّب هذا الإصلاح تبني معايير شفافة في الإدارة، وتعزيز المساءلة، ومحاربة الفساد الذي لا يزال يشكل تحدّياً رئيسياً، إذ إحتلت ليبيا المرتبة 173 عالمياً في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024. كما يتعيّن تحديث القوانين الإقتصادية لتواكب متطلبات السوق، بما يسهل جذب الإستثمارات الأجنبية ونقل التكنولوجيا، ويُعزّز بيئة الأعمال المحلية.
أما الإصلاح الإجتماعي، فهو الجانب الإنساني للتغيير الإقتصادي، إذ لا يُمكن لأي نمو إقتصادي أن يكون فعّالاً إذا لم ينعكس على معيشة المواطنين. فقد بلغ معدل البطالة 18.6 % في العام 2024، ويُتوقع أن ينخفض إلى نحو 15.5 % في العام 2025 إذا ما تم دعم القطاعات غير النفطية وتحفيز القطاع الخاص على خلق فرص عمل جديدة. كما يشمل الإصلاح الإجتماعي تطوير برامج الحماية الإجتماعية لتوجيه الدعم إلى الفئات الأكثر إحتياجاً، وتحسين جودة التعليم والصحة والإسكان، والإستثمار في التدريب المهني لتأهيل القوى العاملة ورفع إنتاجيتها بما يواكب احتياجات السوق.
إن نجاح هذه التوجُّهات الإستراتيجية مرهون بمدى قدرة ليبيا على تنفيذ إصلاحات متزامنة ومتكاملة في هذه المحاور الثلاثة، بما يضمن تحقيق توازن بين الاستقرار المالي وتعزيز النمو الإقتصادي ورفع مستوى العدالة الإجتماعية، وتحويل فرص التعافي الإقتصادي إلى واقع ملموس ومستدام.
الإصلاح الرقمي والتحوّل المالي الإلكتروني
يمثل التحوُّل الرقمي في القطاع المالي والمصرفي الليبي إحدى الركائز الجوهرية لتحقيق إصلاح إقتصادي شامل ومستدام، نظراً إلى دوره الحيوي في رفع كفاءة النظام المصرفي، وتعزيز الشمول المالي، وزيادة القدرة التنافسية للإقتصاد الوطني على الصعيدين الإقليمي والعالمي. ومع دخول العالم في موجة تسارع تكنولوجي غير مسبوقة، أصبح تبنّي الحلول الرقمية في البنوك الليبية ليس خياراً، بل ضرورة إستراتيجية لمواكبة التطورات العالمية في الخدمات المالية.
- تطوير البنية التحتية الرقمية للقطاع المصرفي
تتطلّب المرحلة المقبلة إستثماراً واسعاً في البنية التحتية التقنية للبنوك الليبية، بما يشمل تحديث أنظمة المعاملات الإلكترونية، وتوسيع شبكات الدفع الفوري، وزيادة عدد نقاط البيع الرقمية (POS) وأجهزة الصرّاف الآلي الذكية. وتشير التقديرات إلى أن زيادة عدد نقاط البيع بنسبة 50 % خلال عامين يُمكن أن ترفع نسبة المعاملات الإلكترونية في ليبيا من 20 % حالياً إلى نحو 40 %، مما يُسهم في تقليل الإعتماد على النقد الورقي وخفض تكاليف إدارة النقد بنسبة تصل إلى 25 %.
- تعزيز الأمن السيبراني
يشكل الأمن السيبراني أحد التحدّيات الكبرى أمام التحول الرقمي، حيث تعرّض القطاع المالي عالمياً لإرتفاع في الهجمات الإلكترونية بنسبة 35 % خلال السنوات الثلاث الأخيرة. وفي ليبيا، يمثل غياب البنية الدفاعية الرقمية المتطورة أحد عوامل ضعف الثقة في الخدمات الإلكترونية. لذلك، يجب على البنوك الإستثمار في أنظمة متقدمة للكشف المبكّر عن الهجمات، وتطبيق بروتوكولات تشفير عالية المستوى، إضافة إلى إنشاء مركز وطني للاستجابة للطوارئ الإلكترونية بالتعاون بين القطاعين العام والخاص.
- تحديث الإطار التشريعي والتنظيمي
لا يُمكن للتحوُّل الرقمي أن ينجح دون إطار تشريعي وتنظيمي متطور يواكب المتغيّرات التكنولوجية، ويستلزم ذلك تعديل القوانين المصرفية والمالية لتشمل تنظيم خدمات الدفع الإلكتروني، التوقيع الرقمي، حماية البيانات، والتصديق الإلكتروني، بما يتوافق مع معايير الإتحاد الدولي للإتصالات (ITU) ومعايير لجنة بازل للرقابة المصرفية. كما يجب تبنّي لوائح تشجع الإبتكار المالي (FinTech) من خلال ترخيص شركات التكنولوجيا المالية الناشئة وتشجيع الشراكات مع البنوك.
- نشر الثقافة المالية الرقمية
يمثّل الوعي المالي الرقمي حجر الزاوية في نجاح أي إستراتيجية للتحوُّل الإلكتروني، إذ إن غالبية العملاء في ليبيا لا يزالون يفضلون التعاملات النقدية التقليدية بسبب نقص المعرفة بكيفية إستخدام الخدمات الرقمية، ومخاوفهم من الإحتيال. ويمكن للبنوك، من خلال تخصيص نحو 1-1.5 % من أرباحها السنوية لبرامج التوعية والتدريب، أن تضاعف عدد مستخدمي الخدمات الرقمية في غضون ثلاث سنوات، وهو ما قد يرفع نسبة الشمول المالي من أقل من 40 % حالياً إلى ما يقارب 60 %.
- توظيف التكنولوجيا في مكافحة الجرائم المالية
يتيح التحوُّل الرقمي إمكانات كبيرة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب من خلال إستخدام تقنيات الذكاء الإصطناعي وتحليل البيانات الضخمة لرصد الأنماط المشبوهة في المعاملات المالية. وتشير الدراسات إلى أن الأنظمة الذكية قادرة على خفض نسبة المعاملات غير القانونية بنسبة تصل إلى 30-40 % إذا تم تطبيقها بشكل فعّال.
في المحصّلة، يشهد الإقتصاد الليبي فرصاً للتعافي في العام 2025 بعد فترة من التراجع، لكن نجاح هذا التعافي يعتمد على تنفيذ إصلاحات متزامنة تشمل ضبط المالية العامة، وتنويع مصادر الدخل بعيداً عن النفط، وتحسين الحوكمة، وتوسيع دور القطاعات غير النفطية. كما يمثل التحوُّل الرقمي في القطاع المصرفي عنصراً محورياً لزيادة الشمول المالي ورفع الكفاءة ومكافحة الجرائم المالية. إن الجمع بين الإنضباط المالي، والإصلاح المؤسسي، والتطوير الرقمي سيتيح لليبيا تحقيق نمو متوازن ومستدام يعزز الإستقرار المالي والإجتماعي.
المصدر: إدارة الأبحاث والدراسات – إتحاد المصارف العربية