الحوكمة الرشيدة في المصارف الأردنية تقلّل من فرص الفساد
وسوء الإدارة وترفع مستوى الشفافية والمساءلة
تبنّي معايير الحوكمة المؤسسية والبيئية والاجتماعية ضرورة حتمية
للمصارف الأردنية لمواكبة التطوُّرات العالمية وتعزيز إستدامتها
في عالم تتسارع فيه التحدّيات البيئية والإقتصادية والإجتماعية، لم تعد الشركات والمصارف كيانات معزولة عن محيطها، بل أصبحت مسؤولياتها تتجاوز تحقيق الأرباح إلى خلق قيمة مستدامة لجميع أصحاب المصلحة. وضمن هذا السياق، برزت معايير الإستدامة البيئية والإجتماعية والحوكمة (ESGs) كإطار شامل يعيد تعريف النجاح المؤسسي وفق أبعاد أكثر شمولية وتأثيراً.
لم يعد الإلتزام بالحوكمة الرشيدة وحماية البيئة وتحقيق العدالة الإجتماعية مجرد مبادئ أخلاقية، بل تحوّل إلى عنصر حاسم في قرارات المستثمرين والأسواق المالية، إذ أظهرت الدراسات أن الشركات التي تتبنّى معايير الإستدامة البيئية والإجتماعية والحوكمة تتمتع بأداء مالي أكثر إستقراراً، وقدرة أعلى على إدارة المخاطر، وثقة أكبر من العملاء والمستثمرين. ومع ذلك، فإن تطبيق هذه المعايير يُواجه عقبات تُراوح بين نقص الوعي، والتحدّيات التنظيمية، والقيود المالية، خصوصاً في الإقتصادات الناشئة والدول النامية.
المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة ومكوناتها الأساسية
تُمثل المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة مجموعة من المبادئ التي تركز على تحقيق التوازن بين الأهداف المالية والأهداف البيئية والاجتماعية والحوكمة. وتتكوّن من ثلاثة محاور رئيسية:
أولاً. البُعد البيئي (Environmental)، والذي يشمل العوامل المتعلقة بتأثير الشركات على البيئة، مثل إدارة الإنبعاثات الكربونية، إستخدام الموارد الطبيعية، وإدارة النفايات والطاقة المتجدّدة.
ثانياً. البُعد الإجتماعي (Social)، والذي يُغطي الجوانب المتعلقة بالعلاقات بين الشركات والمجتمعات، مثل معايير حقوق الإنسان، التنوّع والشمول، ظروف العمل، والمشاركة المجتمعية.
ثالثاً. بُعد الحوكمة (Governance)، والتي تتعلق بالإدارة الرشيدة للشركات، وتشمل هيكل مجالس الإدارة، الشفافية، مكافحة الفساد، والتقيُّد باللوائح القانونية.
تُساهم المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة في تعزيز الإستدامة المالية والمصرفية من خلال دورها الفعّال في تقليل المخاطر التشغيلية والمالية التي قد تنشأ عن الإستثمارات غير المستدامة، مما يُعزّز إستقرار الأسواق المالية ويضمن تحقيق نمو إقتصادي متوازن. كما أنها تعزّز ثقة المستثمرين من خلال توفير معايير شفافة وواضحة للإفصاح عن الأداء البيئي والإجتماعي والحوكمة، مما يجذب رؤوس الأموال الباحثة عن إستثمارات مسؤولة ومستدامة.
إضافة إلى ذلك، تسهم تلك المعايير في تحسين الكفاءة التشغيلية للمؤسسات المالية، حيث تؤدي السياسات البيئية الرشيدة إلى تقليل إستهلاك الموارد والطاقة، بينما تعزّز الممارسات الإجتماعية الإيجابية من رضى الموظفين وتحفّزهم على تحقيق إنتاجية أعلى. في المقابل، إن الحوكمة الرشيدة تقلّل من فرص الفساد وسوء الإدارة، مما يرفع من مستوى الشفافية والمساءلة، ويؤدي في النهاية إلى أداء مالي أكثر استدامة وربحية، كما تساهم في تقليل المخاطر التشغيلية والمالية الناجمة عن الإستثمارات غير المستدامة.
التحوُّلات العالمية في تبنّي المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة
إن الشروع في تبنّي المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة بشكل رسمي ليس بالأمر السهل، إذ يتطلّب إستثمارات كبيرة من حيث المال والموارد. ومع ذلك، فإن هناك العديد من الإحصاءات التي تثبت أن هذه الجهود تؤتي ثمارها على المدى الطويل. فعلى سبيل المثال، أفادت دراسة من S&P Global Market Intelligence بأن 80% من أكبر الشركات العالمية تتعرّض لمخاطر مادية أو متعلّقة بتحوُّلات السوق نتيجة تغيّر المناخ.
وبحسب التقديرات، يُتوقع أن تكلّف الظواهر الجوية المرتبطة بالمناخ الشركات حوالي 1.3 تريليون دولار في حلول العام 2026. كما أشارت دراسة صادرة عن PwC أن 76% من المستهلكين أكدوا أنهم سيتوقفون عن شراء منتجات الشركات التي لا تحترم البيئة أو الموظفين أو المجتمع الذي تعمل فيه.
من جهة أٌخرى، أظهر تقرير Business and Sustainable Development Commission أن وضع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة (SDGs) في صميم الإستراتيجية الإقتصادية العالمية يُمكن أن يفتح فرصاً بقيمة 12 تريليون دولار سنوياً ويوفر 380 مليون وظيفة. كما أظهرت دراسة من S&P Global أن 53% من إيرادات أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة و49% من إيرادات أكبر 1,200 شركة عالمياً تأتي من أنشطة تدعم أهداف التنمية المستدامة.
وتماشياً مع تصنيف الإتحاد الأوروبي للأنشطة المستدامة، فإن 27% من إيرادات أكبر 500 شركة أميركية و31% من إيرادات أكبر 1,200 شركة عالمية تأتي من أنشطة تتماشى مع هذا التصنيف.
وتظهر أبحاث McKinsey أن استراتيجيات المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة، يمكن أن تؤثر على الأرباح التشغيلية بنسبة تصل إلى 60%. ومن الملفت أيضاً أن الشركات التي تتمتع بأعلى معدلات رضى الموظفين تمتلك درجات تطبيق لتلك المعايير أعلى بنسبة 14% من المتوسط العالمي، ويرجع ذلك غالباً إلى أدائها البيئي القوي، كما جاء في تقرير Marsh & McLennan. علاوة على ذلك، أكد 88% من المستهلكين أنهم سيكونون أكثر ولاءً للشركات التي تدعم القضايا الإجتماعية أو البيئية.
تجربة الأردن في تبنّي المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة
تُعتبر تجربة الأردن في تبنّي معايير البيئية والمجتمع والحوكمة خطوة هامة نحو تحقيق التنمية المستدامة وتحسين الأداء المؤسسي في مختلف القطاعات. ورغم التحدّيات التي يُواجهها الأردن على الأصعدة الإقتصادية والبيئية والإجتماعية، فإن هناك إهتماماً متزايداً من الحكومة والقطاع الخاص بالإستثمار في المبادرات المستدامة التي تدعم هذه المعايير.
فعلى الصعيد البيئي، يُعد قطاع البيئة من أبرز المجالات التي تركز عليها السياسات الوطنية في الأردن. فالتحدّيات البيئية، بما في ذلك ندرة المياه والتأثيرات الناتجة عن تغيُّر المناخ، جعلت من السياسات البيئية عنصراً أساسياً في الإستراتيجيات المستقبلية. وقد تبنّت الحكومة الأردنية برامج تهدف إلى زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجدّدة، حيث يُعتبر الأردن من الدول الرائدة في المنطقة في هذا المجال، إذ حقق تقدماً ملحوظاً في إنتاج الطاقة من الشمس والرياح. كما تم إطلاق العديد من المشاريع مثل «مشروع محطة الشمس» للطاقة الشمسية في مناطق عدة في المملكة. كما وضعت الحكومة أهدافاً طموحة لتحقيق 50% من إحتياجاتها من الطاقة عبر مصادر متجددة في حلول العام 2030.
وفي ما يتعلق بالجانب الإجتماعي، يُولي الأردن أهمية كبيرة لتحقيق التنمية الإجتماعية من خلال تحسين مستوى حياة المواطنين وتعزيز العدالة الإجتماعية. وقد تم تطوير العديد من السياسات التي تهدف إلى تحسين الرعاية الصحية والتعليم، مع التركيز على توفير خدمات تعليمية وصحية شاملة للمواطنين، لا سيما في المناطق الريفية. كما تبذل الحكومة جهوداً مستمرة لدعم مشاركة المرأة في سوق العمل وتوفير بيئة عمل أكثر شمولاً. من جهة أخرى، فإن القطاع الخاص في الأردن قد بدأ أيضاً في تبنّي إستراتيجيات تهدف إلى تحسين التفاعل الإجتماعي ودعم المبادرات المجتمعية، وهو ما يعزّز من فكرة المسؤولية الإجتماعية للشركات.
على صعيد الحوكمة، يعمل الأردن على تعزيز الشفافية والمساءلة في مؤسسات الدولة، وقد تم تبنّي العديد من السياسات القانونية التي تهدف إلى تحسين أداء الحكومة والشركات. وقد تم إنشاء مؤسسات مستقلة لمراقبة الفساد وتعزيز الشفافية، مع تبنّي سياسات تشجع الشركات على نشر تقارير إستدامة تضمن إلتزامها بالمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة.
أحدُ أبرز المجالات التي شهدت تطوراً هو تحسين الحوكمة في القطاع الخاص، حيث أصبح من الضروري على الشركات الكبرى تبنّي معايير الإستدامة والشفافية من أجل تحقيق التميُّز المؤسسي في الأسواق المحلية والدولية.
أخيراً، ورغم التقدّم الملحوظ في تبنّي المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة، إلاّ أن الأردن يُواجه تحدّيات إقتصادية وبيئية تتطلب بذل مزيد من الجهود. من أبرز هذه التحدّيات الأزمة الإقتصادية التي تؤثر على قدرة الحكومة والقطاع الخاص على تنفيذ مشروعات ضخمة في مجالات الطاقة المتجددة أو تحسين البنية التحتية. كما تمثل مشكلة ندرة المياه تحدياً بيئياً مستمراً في الأردن، حيث يحتاج إلى حلول مبتكرة لإدارة هذه الموارد بشكل مستدام. ومع ذلك، فإن هناك فرصاً كبيرة يمكن أن يستفيد منها الأردن في تعزيز إستراتيجيات تطبيق المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة، مثل التوسُّع في إستخدام الطاقة المتجدّدة، وتشجيع الإبتكار في التقنيات البيئية، وتحسين القدرة على جذب الإستثمارات الخارجية في المجالات الخضراء والمستدامة.
أثر تطبيق المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة على المصارف الأردنية
تُعد المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة من العوامل الحاسمة في تعزيز الإستدامة والشفافية في القطاع المصرفي. ومع تزايد التحدّيات البيئية والإجتماعية، أصبح من الضروري للمصارف الأردنية تبنّي تلك المعايير لضمان إستدامتها وتعزيز ثقة المستثمرين والعملاء.
وتتضمّن تلك المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة ثلاثة محاور رئيسية في المصارف. أولًا، الحوكمة المؤسسية، والتي تتعلّق بالإدارة الرشيدة للمصارف، مثل إستقلالية مجلس الإدارة، الشفافية، والمسؤولية في إتخاذ القرارات. ثانياً، الممارسات البيئية، التي تشمل تقليل البصمة الكربونية، الإستثمار في المشاريع المستدامة، وتطبيق معايير المسؤولية البيئية في العمليات المصرفية. وثالثاً، الممارسات الإجتماعية، التي تتعلق بحقوق الموظفين، التنوّع والشمول، المسؤولية الاجتماعية، ودعم المجتمعات المحلية.
ويؤدي تطبيق تلك المعايير إلى تحسين الإستقرار المالي، حيث تعزّز الشفافية والمساءلة، مما يقلّل من المخاطر المالية، ويُسهم في إستقرار المصارف الأردنية. كما أن تبنّيها يزيد من جاذبية المصارف للمستثمرين، إذ يُفضّل المستثمرون المؤسسات التي تلتزم الإستدامة، وتقلّل من المخاطر التشغيلية والمالية. إضافةً إلى ذلك، تساهم الممارسات البيئية والإجتماعية في تحقيق التنمية المستدامة، حيث تعزّز الأداء الإقتصادي والإجتماعي على المدى الطويل. كما أن تبنّي هذه المعايير يساعد المصارف الأردنية على الإمتثال للمتطلبات التنظيمية العالمية، مما يفتح المجال أمام شراكات وفرص تمويل دولية.
لكن ورغم الفوائد الكبيرة لتطبيق المعايير البيئية والإجتماعية والحوكمة، إلاّ أن المصارف الأردنية تواجه عدداً من التحدّيات في هذا المجال. من بين هذه التحدّيات، التكلفة العالية لتطبيق هذه المعايير، حيث يتطلّب تنفيذ إستراتيجياتها إستثمارات كبيرة في البنية التحتية والتكنولوجيا. كما أن التحدّيات التشريعية والتنظيمية تشكل عائقاً، حيث تحتاج المصارف إلى دعم حكومي وإطار تنظيمي واضح يسهل تبنّي هذه المعايير.
ولتعزيز تطبيق المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، يجب على المصارف الأردنية تعزيز الشفافية والإفصاح عن سياساتها البيئية والإجتماعية والحوكمة. كما ينبغي الإستثمار في التكنولوجيا الخضراء لتعزيز الكفاءة البيئية في العمليات المصرفية. علاوة على ذلك، يُمكن للمصارف توفير برامج تدريبية لتعزيز وعي الموظفين والمستثمرين حول أهمية تلك المعايير. كما أنه من الضروري تعزيز التعاون مع الجهات التنظيمية لتطوير سياسات داعمة لتطبيق الحوكمة المؤسسية والبيئية والإجتماعية، مما يُسهم في تسهيل تبنّي هذه المعايير على نطاق أوسع.
وفي الخلاصة، يُعد تبنّي معايير الحوكمة المؤسسية والبيئية والاجتماعية ضرورة حتمية للمصارف الأردنية لمواكبة التطورات العالمية وتعزيز استدامتها. ومن خلال تعزيز الشفافية والإستثمار في المشاريع المستدامة، يُمكن للمصارف تحقيق نمو إقتصادي قوي وتعزيز دورها في تحقيق التنمية المستدامة في الأردن.