الخدمات المصرفية المفتوحة تُمهد الطريق لنظام بيئي
أكثر شمولاُ وتنافسية وأكثر تركيزاُ على العملاء
تمثِّل الخدمات المصرفية المفتوحة Open Banking تحوُّلاً ثورياً في قطاع الخدمات المالية، حيث تُغيّر جذرياً طريقة التفاعل بين المؤسسات المالية والمستهلكين، فمن خلال تمكين مزوّدي الخدمات من الجهات الثالثة (Third-party providers) من الوصول إلى بيانات المصارف عبر واجهات برمجة التطبيقات (Application programming interfaces). وقد نشأت فكرة الخدمات المصرفية المفتوحة نتيجة الطلب المتزايد على تحسين تجارب العملاء، وزيادة الشفافية، وتعزيز المنافسة في القطاع المالي. وقد اكتسبت الفكرة زخماً مع التقدُّم التكنولوجي، وإزدياد إنتشار شركات التكنولوجيا المالية (FinTech) والإنتشار الواسع للهواتف الذكية والوصول إلى الإنترنت.
وقد بدأت الخدمات المصرفية المفتوحة في أوروبا مع تقديم التوجيه الثاني لخدمات الدفع (Second Payment Services Directive) في العام 2015، والذي ألزم المصارف توفير الوصول إلى واجهات برمجة التطبيقات للجهات الثالثة بشرط موافقة العملاء. وقد كان الهدف من هذا التوجيه كسر إحتكار المصارف التقليدية للبيانات المالية، وخلق نظام بيئي أكثر تنافسية وإبتكاراً. علماً أنه لم يوفر «التوجيه» الإطار التنظيمي فقط، بل مهّد الطريق لعصر جديد يتمكن فيه المستهلكون من مشاركة بياناتهم المالية بأمان للوصول إلى خدمات ومنتجات أفضل مصمّمة خصيصاً لإحتياجاتهم.
إنتشار الخدمات المصرفية المفتوحة عالمياً
شهد سوق الخدمات المصرفية المفتوحة نمواً كبيراً، ويُتوقع أن يستمر في التوسع خلال السنوات المقبلة، وفي العام 2023، بلغت قيمة سوق الخدمات المصرفية المفتوحة نحو 25.14 مليار دولار، ويُتوقع أن تصل إلى 135.17 مليار دولار في حلول العام 2030، مع معدّل نمو سنوي مُركّب يبلغ 27.4 % ما بين عامي 2024 و2030.
بالإضافة إلى ذلك، بلغت قيمة المعاملات المصرفية المفتوحة عالمياً قرابة 57 مليار دولار في العام 2023، مع توقعات بزيادة كبيرة في السنوات المقبلة. وفي المنطقة العربية، يشير تقرير صادر عن Zawya أن حجم سوق الخدمات المصرفية المفتوحة قد بلغ 1.17 مليار دولار في نهاية العام 2023. وتُبرز هذه الأرقام التبنّي المتسارع لحلول الخدمات المصرفية المفتوحة على مستوى العالم، مدفوعاً بعوامل مثل تحسين تفاعل العملاء من خلال واجهات برمجة التطبيقات ودعم الحكومات بالتشريعات الملائمة، وزيادة تنفيذ الخدمات المالية المبتكرة والتطبيقات الحديثة.
وإنتشرت الخدمات المصرفية المفتوحة عالمياً، مع إعتماد الدول لنهج مُخصّص بِناءً على وضعيتها التنظيمية والسوقية. ففي المملكة المتحدة، فرضت هيئة المنافسة والأسواق (Competition and Markets Authority) على تسعة مصارف رئيسية تطوير واجهات برمجة تطبيقات موحدة، مما جعل المملكة رائدة في الخدمات المصرفية المفتوحة. وقد أدّى التنفيذ إلى تعزيز الإبتكار، مع قيام العديد من شركات التكنولوجيا المالية بتطوير خدمات مثل تجميع الحسابات وبدء المدفوعات وأدوات التخطيط المالي.
وفي الولايات المتحدة وكندا، كان تبنّي خدمات المصارف المفتوحة مدفوعاً بالسوق، حيث تعاونت المؤسسات المالية الكبرى مع شركات التكنولوجيا المالية لتطبيق حلول الخدمات المصرفية المفتوحة.
وقد أدّى غياب إطار تنظيمي رسمي إلى مرونة لكنه خلق تحديات في التوحيد والأمان. وفي آسيا والمحيط الهادئ، نفّذت دول مثل أستراليا حق المستهلك في البيانات (Consumer Data Right) والهند إطار تجميع الحسابات (Account Aggregator Framework) أطر عمل قوية للخدمات المصرفية المفتوحة لتمكين المستهلكين وتعزيز الشمول المالي، حيث ركّزت هذه المبادرات على منح الأفراد والشركات تحكماً أكبر في بياناتهم مع تعزيز النمو الإقتصادي.
أما في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، فتستفيد إقتصاداتها من الخدمات المصرفية المفتوحة لتعزيز الشمول المالي ودعم النظم البيئية المالية التقنية الناشئة. فعلى سبيل المثال، أطلقت البحرين والمملكة العربية السعودية مبادرات لدمج الخدمات المصرفية المفتوحة في قطاعاتها المالية بهدف جذب الإستثمارات ودفع التحول الرقمي.
الأطر التنظيمية للخدمات المصرفية المفتوحة
تلعب الهيئات التنظيمية دوراً محورياً في تشكيل الخدمات المصرفية المفتوحة من خلال ضمان حماية المستهلك، وأمان البيانات، والمنافسة العادلة، حيث تشمل الموضوعات التنظيمية الرئيسية التالي:
- خصوصية البيانات (Data Privacy): تضمن قوانين مثل اللائحة العامة لحماية البيانات (General Data Protection Regulation) في أوروبا أن يتم الوصول إلى بيانات العملاء ومشاركتها بأمان وبموافقة صريحة فقط. تعطي هذه القوانين الأولوية للشفافية وثقة المستهلك.
- المعايرة (Standardization): تتطلّب العديد من السلطات القضائية واجهات برمجة تطبيقات موحدة ومعيارية لضمان التشغيل البيني والتكامل السلس عبر المنصات. تقلّل واجهات برمجة التطبيقات الموحدة من التعقيد بالنسبة للجهات الثالثة وتشجع المشاركة الأوسع في النظام البيئي للخدمات المصرفية المفتوحة.
- المسؤولية وحلّ النزاعات (Liability and Dispute Resolution): تُحدّد قواعد واضحة في ما يتعلق بالمسؤولية في حالات اختراق البيانات أو المعاملات غير المصرّح بها، ويساعد هذا الوضوح في بناء الثقة بين المستهلكين وأصحاب المصلحة.
- توعية المستهلك (Consumer Awareness): تؤكد الهيئات التنظيمية توعية المستهلكين بحقوقهم وفوائد الخدمات المصرفية المفتوحة. تُعد حملات التوعية وعمليات الموافقة المبسطة أساسية للتبنّي الواسع.
أهمية الخدمات المصرفية المفتوحة
تعيد الخدمات المصرفية المفتوحة تشكيل المشهد المالي من خلال:
- تحسين تجارب المستهلك: من خلال تجميع البيانات المالية، تتيح الخدمات المصرفية المفتوحة خدمات مالية مخصصة، بما في ذلك أدوات الميزانية، ونصائح الإستثمار، وعروض القروض المصمّمة خصيصاً. وعلى سبيل المثال، يُمكن للمستهلكين إستخدام تطبيق واحد لعرض وإدارة الحسابات عبر مصارف عدة، مما يُبسط إدارة المالية.
- تعزيز الشمول المالي: تتيح الخدمات المصرفية المفتوحة وصول السكان المحرومين إلى الإئتمان والخدمات المالية الأخرى من خلال تحليل البيانات البديلة. وعن طريق تقييم تاريخ المعاملات ودفع الفواتير، يُمكن للمقرضين تقييم الجدارة الإئتمانية بخلاف درجات الائتمان التقليدية.
- دفع الإبتكار: يُمكن لشركات التكنولوجيا المالية إنشاء خدمات وتطبيقات جديدة بإستخدام واجهات برمجة التطبيقات الخاصة بالخدمات المصرفية المفتوحة. تشمل الإبتكارات أدوات التوفير التلقائية، والرؤى المالية في الوقت الفعلي، ومنصّات الإقراض بين الأفراد.
- تعزيز المنافسة: فمن خلال خلق تكافؤ في الفرص، تشجع الخدمات المصرفية المفتوحة المصارف التقليدية على الإبتكار وتحسين عروضها. ويستفيد المستهلكون من بيئة تنافسية من خلال منتجات أفضل، ورسوم أقل وخدمات محسّنة.
التأثيرات المباشرة وغير المباشرة على الممارسات المصرفية التقليدية:
للخدمات المصرفية المفتوحة آثار كبيرة على المصارف التقليدية، بشكل مباشر وغير مباشر، ومنها التالي:
- نماذج الإيرادات (Revenue Models): تُواجه المصارف إنخفاضاً في الإيرادات من الخدمات التقليدية، حيث يتحول العملاء إلى حلول الجهات الثالثة المبتكرة. فعلى سبيل المثال، قد تتجاوز خدمات بدء الدفع من الجهات الثالثة الشبكات التقليدية للبطاقات، مما يؤثر على دخل الرسوم لدى المصارف.
- إستثمارات التكنولوجيا: تتطلّب إستثمارات كبيرة لبناء واجهات برمجة تطبيقات آمنة ودمج قدرات الخدمات المصرفية المفتوحة، كما يجب على المصارف تعزيز تدابير الأمن السيبراني لحماية البيانات المشتركة بشكل متزايد.
- التعاون مع شركات التكنولوجيا المالية: تتزايد الشراكات بين المصارف وشركات التكنولوجيا المالية لتطوير حلول مشتركة، مما يُعزّز ثقافة التعاون بدلاً من المنافسة، وتساعد المشاريع المشتركة والشراكات الإستراتيجية المصارف على البقاء ذات صلة وكسب مصادر جديدة للإيرادات.
- توقعات العملاء: مع تجربة المستهلكين للخدمات المُحسّنة من شركات التكنولوجيا المالية، فهم يطلبون مستوى الراحة والتخصّص نفسه من المصارف التقليدية. ويجب على المصارف إعادة تصور إستراتيجيات التفاعل مع العملاء بإستخدام تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي.
- ديناميكيات السوق: تعزّز الخدمات المصرفية المفتوحة التحوُّل نحو نموذج النظام البيئي، حيث تعمل المصارف كمنصات تُسهل الخدمات المالية المتنوعة. ويتطلب هذا الإنتقال من المصارف إعادة تعريف أدوارها والتركيز على تقديم الخدمات ذات القيمة المضافة.
- التحدّيات التشغيلية: يجب على المصارف التقليدية تحديث الأنظمة القديمة لتلبية متطلّبات المرونة والقابلية للتوسع التي تتطلبها الخدمات المصرفية المفتوحة، ويتطلب هذا التحوُّل تغييرات ثقافية وهيكلية كبيرة داخل المؤسسات.
في المحصلة، تمثل الخدمات المصرفية المفتوحة ليس مجرد إبتكار تقني، بل تغيير جذري في الصناعة المالية، ومن خلال «دمقرطة» الوصول إلى البيانات المالية، فإنها تُمهّد الطريق لنظام بيئي أكثر شمولاُ وتنافسية وأكثر تركيزاُ على العملاء. وبالنسبة للمصارف التقليدية، يمثل الانتقال تحدّيات ولكنه يقدم أيضاً فرصاً للإبتكار والتعاون وإعادة تعريف دورها في سوق سريع التطوُّر. ومع إستمرار إنتشار الخدمات المصرفية المفتوحة، سيعتمد نجاحها طويل الأجل على تنظيمات قوية، وتقدم تكنولوجي، وإستعداد الأطراف المعنية لتبنّي التغيير.
ويُتوقع أن يتوسع مستقبل الخدمات المصرفية المفتوحة ليشمل ما هو أبعد من الخدمات المصرفية ليصل إلى التمويل المفتوح (Open Finance)، حيث يتم مشاركة بيانات مالية أوسع، مثل التأمين والمعاشات التقاعدية والإستثمارات، عبر واجهات برمجة التطبيقات. سيوفر هذا التطور نظاماً مالياً موحّداً، مما يمنح المستهلكين راحة غير مسبوقة وتحكماً في حياتهم المالية. من جهة أخرى، يجب على الحكومات والهيئات التنظيمية الإستمرار في تحسين الأطر لتحقيق التوازن بين الإبتكار والأمان وحماية المستهلك.
وفي ما يخص الدول النامية، ومن ضمنها الدول العربية، ستُقدم الخدمات المصرفية المفتوحة فرصاً كبيرة لتحسين الشمول المالي وتعزيز الإبتكار في تقديم الخدمات المالية. ويُمكن لهذه الخدمات أن تُسهم في توسيع نطاق الوصول إلى الائتمان والخدمات المالية الأخرى للأفراد والشركات الصغيرة والمتوسطة التي قد تكون قد تم إستبعادها من النظام المالي التقليدي. ولكن، في الوقت نفسه، تثير هذه الإبتكارات تحدّيات تتعلق بالأمن السيبراني وحماية بيانات العملاء، مما يستدعي ضرورة وجود إطار تنظيمي فعّال يضمن حماية هذه البيانات ويشجع على الإبتكار في الوقت ذاته.