العلاقة بين المصارف المراسلة والمحلية تحكمها
الحاجة والربح المالي والثقة المتبادلة
تُواجه المصارف حول العالم ومنها المصارف العربية، معضلة تحقيق التوازن بين الحفاظ على علاقاتها المالية من جهة، وتلبية متطلبات العناية الواجبة وإرتفاع تكاليف الإمتثال من جهة أخرى. من هنا تأتي أهمية علاقة المصارف، ومنها المصارف العربية، مع البنوك المُراسلة، حيث يقوم البنك المُراسل (Correspondent Bank) بتقديم الخدمات المصرفية إلى البنك المحلي (Respondent Bank)، وتُستخدم لتنفيذ مجموعة من العمليات لطرف ثالث، قد يكون عميلاً مباشراً للبنك المجيب أو عميلاً وسيطاً (مثل البنوك والمؤسسات المالية)، كما تلعب العلاقة مع البنوك المراسلة دوراً رئيسياً في دعم النمو والنشاط الإقتصادي، عبر تسهيل التجارة الدولية والنشاطات المالية عبر الحدود، كما تُوفّر الإحتياجات الأساسية للعملاء والشركات والأفراد.
تكمن أهمية إستخدام البنوك المراسلة أيضاً، في قدرة المؤسسات المالية على تقديم خدماتها إلى عملاء أكثر دون الحاجة إلى فتح فروع، بمعنى آخر البنوك المراسلة هي مجموعة من البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية، التي يتعامل معها البنك المحلي لتقديم خدمات تحويل الأموال وتمويل التجارة الخارجية، والإعتمادات المستندية وغيرها من الخدمات المالية لصالح عُملائه المحليين، وتقوم العلاقة مع البنوك المراسلة على أساس إتفاقية ثنائية، تعتمد على علاقات متبادلة عبر الحدود. كما تُستخدم كطريقة للتواصل مع كبار المستثمرين الذين يعملون في بلدان وقارات أخرى، بالإضافة إلى إتاحة إجراء العمليات المالية للأشخاص بسهولة في أجزاء مختلفة من العالم. وتلعب العلاقات مع البنوك المراسلة العالمية أيضاً، دوراً مهماً في إقتصادات الدول العربية، لأنها الحلقة التي يُمكن من خلالها الحصول على الخدمات والمنتجات المالية العالمية، وإجراء معاملات بالعملات الأجنبية.
ويُوصي الخبراء بـ «تكثيف التعاون والتواصل من قبل جميع المصارف في منطقتنا العربية، مع البنوك المراسلة لتعزيز الشفافية وتوطيد العلاقات معها، كما أن وضع سياسات وإجراءات شاملة تُلبّي متطلّبات القوانين، وقواعد العمل والتوصيات الدولية والحرص على تطبيقها بشكل فعّال، تُعتبر شروطاً أساسية لبناء جسور الثقة وتخفيف آثار سياسات تقليص المخاطر وحماية نظامنا المالي».
تجربة المصارف العربية مع المصارف المراسلة
في السنوات الأخيرة، تعرّضت المصارف العربية (ومنها لبنان بعد الإنهيار في العام 2019)، لضغوطات، بإعتبار أنّ العلاقات مع البنوك المراسلة باتت أكثر عرضة لإستخدامها في المعاملات غير المشروعة المرتبطة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ويُشير الخبراء إلى أن «عدم الإمتثال للقوانين والتشريعات الدولية المرعية والصادرة عن الهيئات الرقابية، ولا سيما الأميركية منها والمتعلّقة بقوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب ومحاربة الفساد، ينتج عنها مخاطر سمعة كبرى للدول بشكل عام، وللمصارف والمؤسسات المالية بشكل خاص، قد تؤدي إلى قطع علاقاتها مع المصارف المراسلة أو حتى إلى زوالها من الوجود. وقد تتسبّب العقوبات على المصارف والمؤسسات المالية بتنامي ظاهرة صيرفة الظل (Shadow Banking)، حيث تبرز مشكلة جديدة تتجلّى في ظهور قنوات مالية غير خاضعة لأي نوع من أنواع الرقابة».
ويرى هؤلاء الخبراء أن «الحل الموضوعي في هذا المجال يتطلّب تشدُّداً أكثر في الرقابة الداخلية، والتوسُّع في المعلومات والمعطيات الهادفة إلى تطبيق أشمل لقاعدة «إعرف عميلك»، وتوسيع آليات التنسيق والتعاون ما بين القطاع المصرفي والسلطات الرقابية والقضائية والأمنية، كما يؤدي الخروج من المنظومة المالية والمصرفية الدولية، أو التعرُّض للعقوبات الى ما يُعرف بالتهميش المالي (Financial Exclusion) لفئات كثيرة من المجتمع ما يعوّق تقدّمها وإزدهارها»، مشدّدين على أن «عالمنا العربي يقع في عين اللعبة الدولية، حيث تتفجر فيه وحوله الصراعات الجيو-سياسية، فمن تصعيد العقوبات على بعض الأفراد والمنظمات، إلى الحروب والصراعات في بعض الدول العربية (لبنان وغزة). هنا تجد المصارف والمؤسسات المالية العربية نفسها في قلب الحدث، وفي ساحة المعركة، وهنا تجد السلطات الرقابية والسلطات الامنية والقضائية نفسها في مواجهة مع المنظمات والأفراد الذين يُحاولون إستخدام القنوات المالية للوصول إلى أهدافهم».
يُشدّد الخبراء على أنه «إتضح للجميع في المؤسسات المالية والمصرفية، بأنه لا بد من المضي في تجسيد العمل المالي والمصرفي، من خلال تطبيق المعايير اللازمة بل وتطويرها وإستحداث البرامج التكنولوجية، بهدف فرض رقابة محكمة، من خلال منظومة متكاملة تخدم العمل الرقابي على هذه المؤسسات وتحسين أدائها، وأن كل هذا في المقابل، يُعزّز ثقة العملاء بالمؤسسات المالية والمصرفية. لذلك، كان لمجموعة العمل المالي الدولية FATF إصرارها على تطبيق معاييرها لما له من أثر إيجابي، وجعلت من هذا الإلزام ورشة عمل مستمرة، وتتوسع مع مرور الزمن، وقد شهدت فعّاليات مختلفة هادفة إلى تعزيز التدابير المتخذة لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والتي تم تطويرها بشكل تدريجي وها هي تطبق وبشكل فعّال».
ويرى الخبراء «أن الحروب القائمة في المنطقة والعقوبات المالية المفروضة على بعض الدول والمنظمات، تدفع بالمصارف العالمية إلى التمادي في سياسة تقليص المخاطر في المنطقة العربية، ولا شك في أن هذا التشدُّد الذي يشهده العالم في مجال تطبيق نظم الإمتثال وظاهرة تجنُّب المخاطر، De-Risking هو من العوامل الأساسية التي ينبغي التنبُّه إليها لحماية النظام المالي والمصرفي في منطقتنا»، محذّرين من أن «سياسة تقليص المخاطر إن طبقت بطريقة عشوائية، تؤدي حتماً إلى حرمان فئات كاملة من العملاء أفراداً ومؤسسات وشركات وجمعيات وغيرها، من الإستفادة من الخدمات المالية الأساسية، ما يدفعها الى التعامل النقدي والبحث عن خدمات مالية بديلة ذات رقابة محدودة، والذي يُشجّع تلقائياً على ما يُسمّى بـ «صيرفة الظل» أي ـshadow banking.
إجراءات مصرف لبنان
في لبنان، يُشدّد مصرف لبنان على ضرورة الحفاظ على دور القطاع المصرفي اللبناني، في المنظومة المصرفية العالمية، ويؤمن بأن الإلتزام بالمعايير الدولية في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، يحمي المجتمعات والإقتصادات والمصارف من مخاطر هذه الأعمال، ويؤكد المعنيون أن «المركزي» لديه أولوية، كونه يُعزّز سلامة القطاع المالي والمصرفي، ويحميه من المخاطر لا سيما مخاطر السمعة. علماً أن لبنان شريك في الجهود الدولية المبذولة في هذا المجال، من خلال مشاركة هيئة التحقيق الخاصة بأعمال المنظمات الدولية والتعاون مع المصارف المركزية والهيئات الرقابية الأجنبية».
ويُشار إلى أنه «تعزيزاً للشفافية ولتفعيل الإدارة الرشيدة لدى المصارف في لبنان، طوّر مصرف لبنان، من خلال سلسلة من التعاميم، الإطار التنظيمي للقطاع المصرفي والهيكلية الإدارية للمصارف ما يضمن التطبيق السليم لمبادىء الحوكمة، فبعد تنظيم عمل دائرة الإمتثال في المصارف، طلب إنشاء لجنة مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، منبثقة عن مجلس الإدارة برئاسة عضو مجلس إدارة مستقل، مهمّتُها مساندة مجلس الإدارة في ممارسة دوره الإشرافي، في إطار مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وفهم المخاطر ذات الصلة ومساعدته على إتخاذ القرارات المناسبة في هذا الشأن. كما أنشأ مصرف لبنان وحدة إمتثال، بهدف التأكد من مطابقة العمليات التي تمر من خلاله للقوانين والأنظمة المرعية الإجراء، ومن إمتثال المصارف والمؤسسات الخاضعة لرقابته للقوانين والأنظمة».
غبريل: دوائر الإمتثال تملك الكلمة الاخيرة
يرى رئيس مركز الابحاث في بنك بيبلوس نسيب غبريل في حديث لمجلة «إتحاد المصارف العربية» أنه «لا يُمكن تصنيف كل الدول العربية في الخانة نفسها، لجهة علاقة المصارف المراسلة مع القطاعات المصرفية في المنطقة، فهناك بلدان لديها علاقات جيدة بين مصارفها والمصارف المراسلة، وهذه الأخيرة تتهافت للتعامل معها، ولا سيما مصارف دول الخليج ومجلس التعاون الخليجي، وهناك بلدان أخرى لدى مصارفها علاقات مع مصارف مراسلة، ولكن بسبب أوضاع هذه البلدان المحلية، تراقب المصارف المراسلة الأوضاع فيها مثل العراق ولبنان، كما تراقب مصر بدرجة أقل»، لافتاً الى أن «المصارف المراسلة تعلم تماماً أن المنطقة العربية غير مستقرّة، وتشهد خضّات أمنية وظروفاً تدفع المصارف المراسلة إلى الحذر، فيما دوائر الإمتثال في هذه المصارف المراسلة، لديها الكلمة الأخيرة للإبقاء على العلاقات مع المصارف، في أي منطقة في العالم وليس في منطقتنا العربية فقط».
يضيف غبريل: «بالإجمال، يُمكن القول، إن العلاقات جيدة بين المصارف المراسلة الأوروبية والأميركية، ومع القطاعات المصرفية في الدول العربية، ولكن هناك علاقات مميّزة لدى بعضها، لأن حجم التداول بينها وبين المصارف المحلية مرتفع».
ويتابع غبريل: «في لبنان، قبل الأزمة المالية والنقدية في العام 2019، كان حجم التداول مرتفعاً مع المصارف المراسلة، ثم إنخفض، وقد تمّت مراعاة وضع لبنان بعد الأزمة، وإستمر هذا الأمر مع أزمة كورونا. وبعد إنتهائها، عادت المداولات الى طبيعتها بين هذه البلدان والمصارف المراسلة»، لافتاً إلى «أن التهويل باللائحة الرمادية لبلدان عربية لم يؤثر على العلاقة بين مصارفها والمصارف المراسلة، كدولة الامارات العربية المتحدة مثلاً والتي بقيت على اللائحة الرمادية لمدة عام، بناء على تصنيف مجموعة العمل الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ولم تتغيّر العلاقات بين الجانبين».
ويشرح غبريل بأن «زيادة الكلفة تتعلق بالرسوم على الحسابات المصرفية، وكلّما كان عدد الحسابات الخاص بالعملات كبيراً، كلّما زادت الكلفة، لذلك عمد العديد من المصارف اللبنانية إلى تقليصها بعد الأزمة، توفيراً لها وهي كلفة مرتفعة شهرياً»، مشدّداً على أنه «من صالح المصارف المراسلة إستمرار علاقتها مع المصارف المحلية، بسبب حجم التداول والأرباح، ولكن هذه العلاقة والتعاون يخضعان لرأي دوائر الإمتثال في المصارف المراسلة. وتجدر الإشارة إلى أنه لا علاقة بين المصارف المراسلة والمصارف الإيرانية والليبية، لكن العلاقات بين المصارف المراسلة ومصارف الدول العربية مقبولة، مع خصوصية كل بلد». ويختم غبريل:«إن حجم التداول بين الدول الخليجية والمصارف المراسلة ضخم، بسبب حجم إقتصادات هذه الدول ومستوى الإستيراد والتصدير (كمصدر كسب أساسي)، كما في مصر ولبنان قبل الأزمة المالية والنقدية المتعلقة بلبنان تحديداً».
سرُّوع: علاقة المصارف مع البنوك المراسلة نبضُ العمل المصرفي
من جهته، يشرح الخبير الإقتصادي جو سرّوع أن «علاقة المصارف عادة مع البنوك المراسلة، يشكل نبض العمل المصرفي والأساس للمصارف، للقيام بدورها في النمو الإقتصادي، كون هذه العلاقة ترتبط بالنشاط الإقتصادي الخارجي، أي التحاويل وإعتمادات مستندية، ولا بد من لفت النظر إلى أن هذه التحاويل تتم بكل العملات (دولار ويورو عبر المقاصة، أي أثناء عملية الدفع والقبض)، علماً أن أحد أبرز الأمثلة على أهمية هذه العلاقة، العقوبات على روسيا بعد إندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، نظراً إلى المعوّقات التي واجهتها روسيا في التحاويل عبر بنوكها بالدولار، ولم تنجح بتخطّي الأمر إلى اليوم، وهذا يدلُّ على أهمية المصارف المراسلة».
يضيف سرُّوع: «عندما يوضع بلد ما على اللوائح الرمادية من قبل مؤسسات التصنيف الإئتمانية، فإنها لا تُقارب وضع المصارف بل مخاطر البلد المعني، أي مدى تطبيقه لمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب، والإستقرار السياسي والأمني والقضاء الفعّال والناشط»، معتبراً أن «علاقات المصارف بالبنوك المراسلة، يحكمها أمران أساسيان، الأول، العلاقات التاريخية بين المصارف المراسلة والمصارف المحلية، والثاني، المصلحة المشتركة وجني الأرباح».
ويتابع سرُّوع قائلاً: «بما أن هناك مخاطر تبييض الأموال في أسواق مثل لبنان والعراق وليبيا والامارات في فترة محدّدة، فالمعيار الذي يحكم هذه العلاقة، يبقى التواصل بين المصرف المراسل والمصرف المحلي، والتأكد بأن الجانبين يمتثلون للقوانين التي تكافح تبييض الأموال وتمويل الارهاب وتُطبّقها. علماً أن المصارف اللبنانية تمتثل تماماً لهذه القوانين، كما هي الحال في دولة الامارات»، مؤكداً أن «مسؤولية تطبيق الإمتثال لقوانين تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تُعتبر مسؤولية مشتركة بين المصرف المراسل والمصرف المركزي، لذا فإن أي خطأ يحصل سينعكس على المصرفين، من هنا تلعب متانة العلاقة والتنسيق الدائم بين الجانبين دوراً مهماً في إستمرار العلاقة.
(نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر، حين وُضعت إمارة دبي على اللائحة الرمادية، إذ غُرّمت البنوك المراسلة الأوروبية بمبالغ طائلة، لأنها لم تتحقق كما يجب من إجراءات مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب هناك)».
باسمة عطوي