المصارف العربية في مواجهة التحدّيات القانونية والدولية:
الإجراءات المتخذة لتلبية متطلّبات البنوك المراسلة
التحوُّل الرقمي ساهم في تمكين المصارف العربية من بناء بيئة إمتثال أكثر مرونة
وفعّالية وأعاد تشكيل علاقاتها بالمصارف المراسلة
تواجه المصارف العربية تحدّيات قانونية ودولية متزايدة في ظل التغيُّرات العميقة في البيئة التنظيمية العالمية، والتي أصبحت أكثر تعقيداً وتشدُّداً، خصوصاً في ما يتعلق بالإمتثال لمتطلّبات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والشفافية الضريبية. وقد أدّى تصاعد هذه المتطلّبات إلى ضغوط متزايدة على المصارف العربية، حيث باتت ملزمة بالإمتثال لتشريعات دولية مثل قانون الإمتثال الضريبي الأميركي (FATCA) والمعيار المشترك للإفصاح الضريبي (CRS) الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إضافة إلى توصيات مجموعة العمل المالي (FATF) التي تشكل الإطار المرجعي الدولي في هذا المجال.
وفي هذا السياق، يشكل الحفاظ على علاقات مستقرّة مع المصارف المراسلة تحدياً متنامياً، والتي أصبحت أكثر حذراً في التعامل مع المصارف التي تعمل في بيئات تصنّف على أنها عالية المخاطر أو تفتقر إلى أنظمة إمتثال فعّالة، وقد أدّى ذلك إلى إنسحاب عدد من المصارف الدولية من علاقاتها المراسِلة مع بعض المصارف العربية، مما قلّص عدد الحسابات المتاحة وأثّر سلباً في قدرة هذه المصارف على إجراء التحويلات الدولية أو تسهيل العمليات التجارية.
وقد تفاقمت هذه التحديات نتيجة تأثير العقوبات الدولية، لا سيما المفروضة من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي على بعض الدول العربية، مما ألزم المصارف بإتباع إجراءات دقيقة للتحقُّق من خلفيات العملاء والعمليات لتجنُّب خرق هذه العقوبات وما قد يترتب عليه من غرامات أو أضرار بالسمعة.
وقد ساهم إدراج بعض الدول العربية ضمن القوائم الرمادية أو السوداء الخاصة بـFATF في زيادة القيود المفروضة على مصارفها، ما أضعف من قدرتها على جذب رؤوس الأموال والإستثمارات الأجنبية.
الإجراءات المتخذة من المصارف العربية
عملت المصارف العربية خلال السنوات الأخيرة على مواجهة التحدّيات القانونية والدولية المتصاعدة من خلال تنفيذ سلسلة من الإجراءات الإصلاحية العميقة، التي تهدف إلى تلبية متطلّبات المصارف المراسلة والحفاظ على موقعها ضمن النظام المالي العالمي. وقد أدركت هذه المصارف أن إستمرارها في الوصول إلى الأسواق العالمية يتطلب إلتزاماً صارماً بالمعايير الدولية في مجالات الإمتثال، الشفّافية، وإدارة المخاطر، ولذلك بدأت بإعادة هيكلة منظوماتها الداخلية على مستويات متعدّدة.
وفي مقدّمة هذه الجهود، سعت المصارف إلى تعزيز أنظمة الإمتثال من خلال إنشاء وحدات متخصّصة ومستقلة تمتلك الصلاحيات والموارد الكافية للقيام بمهامها بكفاءة. وقد تم إرساء سياسات داخلية صارمة تراعي توصيات مجموعة العمل المالي (FATF) وقواعد الإمتثال الدولية، مع تبنّي منهجية قائمة على تقييم المخاطر بدلاً من الإكتفاء بالإجراءات الشكلية. وقد شمل هذا التحوُّل تدريب الطواقم البشرية وتأهيلها، وتوظيف كوادر ذات خبرة في مجالات الإمتثال والقانون الدولي، إلى جانب الإستعانة بشركات إستشارية عالمية لتطوير الإجراءات الرقابية وفق أفضل الممارسات.
وفي الوقت عينه، لعبت التقنية أيضاً دوراً محورياً في هذه المعالجة، إذ قامت مصارف عدّة بتحديث بنيتها التحتية الرقمية عبر إعتماد حلول تقنية متقدمة في مجال مراقبة العمليات وتحليل البيانات، كما باتت أنظمة رصد المعاملات المشبوهة وأدوات الذكاء الإصطناعي تُستخدم على نطاق واسع لرصد الأنماط غير الإعتيادية في العمليات المصرفية، مما مكّن المصارف من إكتشاف مؤشرات الجرائم المالية في وقت مبكّر والتعامل معها بسرعة وفعّالية. كما قامت بتعزيز نظم «إعرف عميلك» (KYC) والعناية الواجبة المعزّزة (EDD)، حيث تم توسيع نطاق جمع المعلومات والتحقُّق منها لضمان الشفافية الكاملة في البيانات، خصوصاً عند التعامل مع عملاء أو كيانات من جنسيات أو قطاعات عالية المخاطر.
ومن أجل ترسيخ الثقة مع المصارف المراسلة، بدأت المصارف العربية بإظهار مستوى عالٍ من الإفصاح والشفافية، عبر إعداد تقارير دورية مفصلة حول أنشطتها وسياساتها الإمتثالية، ومشاركة هذه المعلومات طوعاً مع شركائها الدوليين. كما دخلت بعض المصارف في مفاوضات مباشرة مع المصارف المراسلة لإعادة بناء العلاقات المتوقفة، مستندة في ذلك إلى التحسينات الجوهرية التي أجرتها على بيئتها التنظيمية والتشغيلية. إلى جانب ذلك، لم تغفل المصارف أهمية الإلتزام بالمعايير الدولية في الشفافية الضريبية، حيث بادرت إلى تطبيق متطلّبات اتفاقية CRS، مما ساهم في إزالة بعض الهواجس لدى المصارف الدولية حيال إحتمالية التهرب الضريبي أو الغموض في تدفق الأموال. كذلك، قامت المصارف بتعزيز تعاونها مع الجهات الرقابية المحلية والإقليمية، من خلال تبادل المعلومات وتنسيق الجهود لمواءمة التشريعات المصرفية مع المعايير العالمية، مما إنعكس إيجابًا على نظرة المؤسسات الدولية لواقع الإمتثال في المنطقة العربية.
بفضل هذه الإجراءات، بدأت بعض المصارف العربية في تعزيز علاقاتها مع المصارف المراسلة تدريجاً، وأصبحت تنظر إليها على أنها شريكة أكثر موثوقية وإنفتاحاً على الإمتثال لمتطلّبات الشفّافية والحوكمة، مما يُعزز من قدرتها على لعب دور فاعل في التجارة العالمية والتحويلات العابرة للحدود في بيئة مالية تتسم بمزيد من التدقيق والرقابة.
التحوُّل الرقمي كأداة داعمة للإمتثال
يشكّل التحوُّل الرقمي اليوم ركيزة أساسية في دعم إمتثال المصارف العربية للمعايير القانونية والدولية، حيث أصبح الإستثمار في التكنولوجيا المالية والتقنيات الرقمية الحديثة عنصراً حاسماً في مواجهة التحدّيات المتزايدة من قبل المصارف المراسلة والجهات الرقابية العالمية، فقد أدركت المصارف أن الإعتماد على الأساليب التقليدية في الإمتثال لم يعد كافياً في ظل التعقيد المتزايد للتشريعات، وتنامي حجم البيانات والعمليات المصرفية العابرة للحدود، مما إستدعى تبنّي حلولاً رقمية متقدّمة لتعزيز الحوكمة والشفافية ومكافحة الجرائم المالية.
وفي هذا الإطار، بدأت المصارف العربية تبنّي أنظمة رقمية ذكية قادرة على تحليل البيانات الضخمة وتحديد الأنماط السلوكية غير الإعتيادية، بما يساعد على إكتشاف العمليات المشبوهة في مراحل مبكرة، كما تم إدخال أدوات الذكاء الإصطناعي والتعلُّم الآلي في عمليات الرقابة، مما أتاح مستوى أعلى من الدقة والسرعة في رصد المخاطر المحتملة، وتوفير تقارير تحليلية آنية تساعد في اتخاذ قرارات قائمة على البيانات. ولا تقتصر هذه الأنظمة على مراقبة المعاملات فحسب، بل تشمل أيضاً تقييم مخاطر العملاء، وإجراء تدقيق مستمر على مدى إلتزامهم، وتحديث بياناتهم بصورة تلقائية إستناداً إلى مؤشرات الخطر.
كما مكّن التحوّل الرقمي المصارف من تطبيق إجراءات «إعرف عميلك» (KYC) بشكل أكثر شمولية وفعّالية، من خلال دمج قواعد البيانات المحلية والعالمية وتفعيل أدوات التحقق الرقمي للهوية، مما قلّص من الإعتماد على الوثائق الورقية ورفع من مستوى الكفاءة التشغيلية. وقد ساهمت هذه التقنيات أيضاً في تسهيل عمليات العناية الواجبة المعزّزة (EDD) عند التعامل مع العملاء أو الدول المصنّفة على أنها عالية المخاطر، مما يُعد عنصراً حاسماً في الحفاظ على علاقات مراسلة مستقرة. ولا يقل أهمية عن ذلك إستخدام تقنيات الإمتثال التنظيمي (RegTech)، التي باتت تشكل العمود الفقري للإدارة الفعّالة للمخاطر، إذ تتيح للمصارف أتمتة العمليات الرقابية، وتحديث السياسات الداخلية بما يتماشى مع التغيُّرات المستمرة في البيئة القانونية الدولية، مما يقلّل من الأخطاء البشرية ويعزز التكيُّف السريع مع متطلّبات الجهات الرقابية.
في المحصّلة، لقد ساهم التحوُّل الرقمي في تمكين المصارف العربية من بناء بيئة إمتثال أكثر مرونة وفعّالية، وأعاد تشكيل علاقاتها بالمصارف المراسلة من موقع الضعف إلى موقع الشريك القادر على الإلتزام، مما يعزّز من فرص بقائها ضمن النظام المالي العالمي، ويمنحها القدرة على المنافسة والنمو في عالم تحكمه البيانات وتراقبه الخوارزميات.
خلاصة وتوصيات
إنطلاقاً من حجم التحديات القانونية والدولية التي تواجهها المصارف العربية، وفي ضوء التحوُّلات المتسارعة في معايير الإمتثال العالمي وإشتراطات المصارف المراسلة، تبرز مجموعة من التوصيات الإستراتيجية بغية تعزيز قدرة المصارف العربية على التكيُّف مع المتطلّبات الدولية وضمان إستمرارية علاقاتها مع الشركاء المصرفيين في الخارج.
وفي هذا السياق، يُوصى أولًا بإنشاء منصّات تعاون وتكامل إقليمي بين المصارف العربية، تهدف إلى تبادل الخبرات في مجال الإمتثال وتوحيد المفاهيم والممارسات التنظيمية، خصوصاً في ما يتعلّق بتطبيق توصيات مجموعة العمل المالي (FATF) وتحديث إجراءات «إعرف عميلك» والعناية الواجبة، كما يُوصى بتبنّي نهج قائم على الابتكار التكنولوجي في تعزيز الإمتثال، من خلال الإستثمار في حلول الإمتثال الرقمي (RegTech) التي تُتيح أتمتة العمليات الرقابية، وتحسين إدارة البيانات، وتقليل مخاطر الخطأ البشري. وعلى المصارف أيضاً تسريع التحوُّل الرقمي في العمليات المرتبطة بالتحقق من هوية العملاء، وتحديث بياناتهم، ورصد المعاملات المشبوهة، بما يتوافق مع التوجهات العالمية في إستخدام الذكاء الإصطناعي والتحليلات المتقدمة لتعزيز فعّالية نظم الإمتثال.
وفي موازاة ذلك، ينبغي تعزيز ثقافة الامتثال في البيئة المؤسسية للمصارف، ليس فقط على مستوى وحدات الامتثال والرقابة، بل على مستوى جميع الإدارات والموظفين، وعبر برامج تدريب مستمرة، وشهادات مهنية متخصصة، وتحديث السياسات الداخلية بما يضمن المواءمة مع المتطلّبات المتغيّرة للبنوك المراسلة. ومن المهم أن تُدمج مؤشرات الأداء المرتبطة بالإمتثال ضمن آليات التقييم الإداري، لضمان التزام فعلي يتجاوز الطابع الشكلي.
كذلك، يُوصى بتقوية العلاقات الإستراتيجية مع المصارف المراسلة عبر الشفافية الكاملة وتقديم تقارير دورية توضح إجراءات المصرف في مجال الحوكمة ومكافحة الجرائم المالية، مع العمل على بناء جسور الثقة من خلال زيارات متبادلة، ومذكرات تفاهم، وتعاون مشترك في مجالات الإمتثال والتدريب وتبادل المعلومات. علماً أن هذه الخطوة ستُعيد تموضع المصارف العربية كشركاء ملتزمين، وليس كمصدر للمخاطر.
وعلى المستوى السياساتي، يُوصى بأن تتبنّى السلطات الرقابية في الدول العربية نهجاً موحداً إقليمياً تجاه المعايير الدولية، من خلال سن تشريعات مرنة وواضحة تستند إلى توصيات FATF ومعايير بازل، مع توفير بيئة تنظيمية داعمة تساعد المصارف على الإمتثال من دون الإضرار بكفاءتها التشغيلية، كما يُقترح إنشاء وحدة مركزية في كل بلد، بالتعاون مع البنك المركزي، تعنى بمتابعة العلاقة مع البنوك المراسلة وتنسيق الردود على أي إستفسارات أو تحذيرات قد تؤثر على الإستقرار المالي الوطني.
وأخيراً، من الضروري تطوير نظام إقليمي موحد لتصنيف المخاطر، يُتيح تبادل المعلومات بين المصارف العربية حول العملاء والمؤسسات عالية الخطورة، مما يسهّل عملية إتخاذ القرار ويُوفر أساساً مشتركاً لبناء الثقة مع الشركاء الدوليين.
المصدر: إدارة الأبحاث والدراسات – إتحاد المصارف العربية