جذب الإستثمارات مفتاح أساسي لتحديد مكانة الدول..
والإصلاحات أقصر الطرق لتحويلها الى واقع
باتت قدرة الدول على جذب الإستثمارات الأجنبية إليها، إحدى المفاتيح الأساسية لتعزيز مكانتها الإقليمية والدولية، ليس فقط من الناحية الإقتصادية بل أيضاً من الناحية السياسية والحضارية. ولعلّ أبرز الأمثلة على ما تقدّم في وطننا العربي، المشاريعُ الإستثمارية التي تُطلقها كل من المملكة العربية السعودية والامارات العربية المتحدة ودولة قطر ومصر. فالقاعدة الأساسية التي ينطلق منها أصحاب رؤوس الأموال المغامرة، الرغبةُ في الإستثمار في الشركات التي يُمكنها توسيع نطاق إستثماراتها وتحقيق عوائد كبيرة عليها. لذلك تُقدم هذه الدول في الرؤى الإستثمارية التي تُطلقها، نماذج عمل واضحة وقابلة للتطوير بما يُمكّن المستثمر من تحقيق إيرادات وأرباح بمرور الوقت.
ومن البديهي القول، إن توصُّلَ الدول إلى مكانة إقتصادية وإستثمارية عالية لا يأتي من فراغ، بل من مجموعة إصلاحات إدارية وقانونية وإقتصادية قامت بها، في حين أن دولاً أخرى تحاول السير على النهج الإصلاحي نفسه لدخول سوق المنافسة والإستثمار.
في لبنان وبعد أزمة إقتصادية ومالية طاحنة وممتدة منذ أكثر من 5 سنوات وعدوان إسرائيلي خلّف دماراً واسعاً، تبدو الحاجة إلى تنفيذ الإصلاحات لجذب الإستثمارات التي تساعده على إعادة النهوض الإقتصادي، أكثر من ضرورة. فمن الناحية التقنية يؤكد الإقتصاديون والخبراء أن«تبسيط إجراءات الإستثمار، ووضوح رؤيتها والأهداف المرسومة لها، يُعد أبرز العوامل الجاذبة للمستثمر، عدا عن تأثيرها في تحفيز الإستثمارات القائمة. كما أن تعزيز الإستثمارات وتمكينها يحتاج إلى الإستمرار بتعزيز الثقة، وتجديدها بشكل دوري بين الجهات الرسمية والمستثمر».
ويدعو الخبراء الى «تبسيط الإجراءات، وإعادة النظر في التشريعات القائمة في جميع مستوياتها من قوانين وأنظمة وتعليمات، وإختصارها قدر الإمكان»، مشيرين الى «أمثلة في دول الاقليم ذات إمكانات متواضعة، تجاوزت الكثير من العراقيل التي تحد من تعزيز الإستثمار».
ويُشدّد الخبراء على «الإهتمام بعنصر التخطيط من خلال تحديد الأولويات الإقتصادية والميزة التنافسية»، لافتين إلى «ضرورة أن يشعر المستثمر بأن التشريعات والقرارات تأتي ضمن معايير شفّافة واضحة وبسيطة، والأهم شعوره بأن سيادة القانون تُطبّق على الجميع من دون إستثناء».
ويرى المصرفيون أن «التسهيلات المالية من شأنها تحريك عجلة الإستثمار، وتوطين صناعات ضخمة وإستراتيجية لتشغيل عدد كبير من العاملين، من خلال منح مشاريع بعينها أراض تابعة للدولة بالمجان مع خدمات البنية التحتية، لإستغلالها لمدة طويلة تصل الى 10 سنوات ولا تتجاوز الـ15 سنة، في مناطق خارج المدن الرئيسية التي تهدف الحكومة الى تنميتها»، مشيرين الى أن «إستقرار التشريعات والقوانين والتعليمات وثباتها، يعمل على توفير البيئة الآمنة للإستثمار، إضافة إلى أن توحيد الجهات الرقابية ووضع ضوابط لتلك الجهات يشعر المستثمر بالراحة والأمان».
بناء على كل ما تقدم، فتحت مجلة «إتحاد المصارف العربية» النقاش مع خبراء في الشأن المصرفي والمالي والإقتصادي والتجاري، حول الإصلاحات المطلوبة من الدول بشكل عام لجذب الإستثمارات، مع التركيز على الوضع اللبناني، كونه أحد أبرز الإقتصادات التي تحتاج الى إستثمارات كبيرة للنهوض من كبوته.
حمود: إصلاح القطاع المصرفي أولاً
من الناحية المالية والمصرفية، يؤكد الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف الدكتور سمير حمود أنه «لا بد من نقطة بداية تتمثل بإعادة هيكلة النظام المصرفي والمالي في لبنان. أي إعادة تنظيم المالية العامة ومصرف لبنان والقطاع المصرفي».
ويشدّد د. حمود على أنه «في الموضوع المالي على الدولة أن تتعامل مع الدين الخارجي، ولا سيما حاملي سندات اليوروبندز وفتح حوار معهم، فبعد التوقف عن السداد غير المنظم لهذه السندات في العام 2020، من المفروض أن تقوم الدولة في الأيام المقبلة بتنظيم عدم السداد»، مشيراً إلى «أن الخطوة الإصلاحية الثانية تتمثل في إعادة هيكلة مصرف لبنان والمصارف، وهذا الامر متوقف على كيفية التعاطي مع المودعين، إذ سيكون هناك مشكلة في البلد إذا جاء الحل على حسابهم»، معتبراً أن «الحل ليس محاسبياً أي إقتطاع الودائع من حسابات المصارف لدى مصرف لبنان، ومديونية الدولة لديه، بل الحل يكمن بحماية حقوق المودعين وهي جزأين، الأول يُمكن إعادة جزء من الأموال على المدى القصير، والجزء الآخر مؤجل بناء على خطة تضعها جمعية المصارف ومصرف لبنان».
يضيف د. حمود: «بمعنى آخر، لا يُمكن أن نبقى مختلفين على الأرقام والوضع النقدي في مصرف لبنان والمصارف، إنما يجب أن تبدأ العلاقة من خلال وضع تصوُّر معيّن، يوضع من قبل الجهتين (المصارف ومصرف لبنان)، ويتم عرضه على وزارة المال لإبداء رأيها. علماً أن مهمة الاخيرة، مخاطبة الدائنين باليوروبندز بناء على خطة لترتيب القطاع المصرفي».
ويؤكد د. حمود أنه «إذا لم نعد إلى الأصول أي تحديد المديونية نسبة إلى الناتج القومي والمالية العامة، وخلق توازن في الموازنة السنوية لإيقاف الإستدانة وتنظيم القطاع المالي، لتصبح مقبولة وفق المعايير الدولية، وإذا لم يحصل تنظيم للقطاع المصرفي وإعادة المصارف رسملة نفسها، وإستعادة لدور مصرف لبنان كناظم لهذا القطاع، من الصعب أن يُقدم المستثمرون على الإستثمار في لبنان من دون إعادة الثقة بالقطاع المصرفي».
ويرى د. حمود أنه «يجب على القطاع المصرفي أن يستعد دوره (إستقطاب المودعين وإقراض للإقتصاد)، وهذا أمر لا يُمكن أن يحصل إذا لم يستعيد المودعون حقوقهم، كذلك يجب التوصُّل الى حل يرضي المودعين ومصرف لبنان والنظام المالي العالمي».
يتابع د. حمود: «لدينا 4 عناصر وهدف، العنصر الأول، إنتظامُ المالية العامة، والثاني، إعادةُ هيكلة مصرف لبنان، والثالث، إعادةُ هيكلة المصارف، والرابع، إعادةُ حقوق المودعين. أما الهدف فيكمن بتفاعل هذه العناصر لإعادة بناء الإقتصاد اللبناني، ولا يُمكن لهذا الإقتصاد النهوض في غياب قطاع عام صحيح وسليم، وهذا يتطلب موازنة سليمة وهيكلة إدارة صحيحة»، معتبراً أن «الحكومة أمامها تحد كبير جداً، وأول خطوة ستقوم بها الدولة، فتحُ باب الإستقالات على مصراعيه، ودفع تعويضات للموظفين لإعادة هكيلة القطاع العام بشكل صحيح. وعلى القطاع المصرفي إعادة رسملة نفسه، كي يتمكّن مصرف لبنان من لعب دوره كسلطة ناظمة للقطاع».
ويلفت د. حمود الى أن «الإقتصاد يعيش على هذه الأدوات وعلى الإنفاق العام، الذي يشكل جزءاً كبيراً من الناتج القومي، وعلى تمويل المصارف للإقتصاد كي يتمكن من الإستمرار، ويعيش على مصرف لبنان الذي يقدم ضماناً بأن القطاع المصرفي سيبقى في وضع سليم، بعدها سيكون على الدولة أن تُفاوض مع صندوق النقد الدولي في هذه الخطة، فإذا إستطاعت نيل ثقته، ليس فقط للحصول على القروض والدعم منه، بل أيضاً تؤمن عودتها إلى الأسواق المالية بشكل صحيح».
ويلفت د. حمود الى أن «وضع لبنان اليوم أفضل لكن الحذر موجود ومشروع، والعمل الجدّي والصحيح هو السبيل للخروج من الأزمة المالية، وهذا من مسؤولية الحكومة الجديدة التي عليها التخلّي عن حالة إنكار الذات، والإنتقال إلى إعتراف بالمشكلة، وكيفية حلّها ليس على المدى الطويل»، مشدّداً على أن «السوق المالية المنتظمة والمنتعشة والسليمة، نظامٌ مالي طويل الأمد، إذ إن هناك أدوات مالية ونقدية قد تمتد الى 30 عاماً، ولكن إستردادها يُمكن أن يحصل قبل هذه الفترة من خلال بيعها في الأسواق المالية، لأنه ليس كل المستثمرين يعملون على المدى القصير فقط بل البعيد أيضاً، المهم، أن نصل إلى مرحلة يتمكّن من خلالها المودعون إمتلاك أدوات مالية، إما أن يصبروا عليها ويحصلوا عليها بقيمتها الإسمية، أو بيعها بعد فترة مع خصم على القيمة الحالية».
ويختم د. حمود: «إن لبنان لن يدخل بحروب إضافية أو سيستمر في الصرف غير المنظم وغير المراقب، ولذلك بات أرضاً خصبة للإستثمار، وإذا تم تأمين القرار الأمني والسياسي يُمكن أن يقف على رجليه، فمن دون الأمن والإستقرار لا يُمكن الحديث عن حلول ومناخ إستثماري وقيام علاقة صحيحة مع المحيط. فالإستقرار الداخلي سيؤدي إلى جذب الإستثمارات اللبنانية على الاقل والعربية أيضاً، وهناك الكثير من فرص الإستثمار في لبنان وكل القطاعات هي دون الصفر، وإمكانية نموّها كبيرة جداً، فلبنان يُمكن النهوض بإمكاناته، شرط تأمين الإستقرار السياسي والأمني».
البواب: إصلاح القضاء ركيزة للإستثمار
يشرح الخبير الإقتصادي الدكتور باسم البواب، أن «هناك عناصر أساسية لجذب الإستثمارات إلى لبنان، العنصر الأول، تسريعُ عجلة البت بالدعاوى القضائية أثناء النزاعات بين الأطراف المعنية، خلال أسابيع على الأكثر، وليس عقوداً كما يحصل اليوم، وهذا أمر يجب أن يعمل عليه العهد الجديد والحكومة الجديدة لأنه الأساس لجذب أي مستثمر جديد على البلد».
يضيف د. البواب: «أما العنصر الثاني، فهو إستبابُ الأمن، إذ إن إنتشار جرائم القتل والسرقة وإقفال الطرق لا يُشجع المستثمرين على الرجوع إلى لبنان، والعنصر الثالث، هو إعتمادُ الحكومة الإلكترونية في إنجاز المعاملات، كما يحصل في المملكة العربية السعودية مثلاً، والإمارات العربية المتحدة، حيث تجري كل المعاملات عبر التطبيقات والمواقع الالكترونية التابعة للوزارات المختصة بعيداً عن التعامل المباشر مع الموظف».
ويرى البواب أن «من عوامل الجذب للإستثمارات في العديد من البلدان غير التطوّر في البُنى التحتية، المردودُ المادي الذي سيُحققه من الإستثمار وسهولة الأعمال (فتح وإقفال شركات، إقامة الدعاوى القضائية…)، بالإضافة إلى تدني المخاطر الأمنية والمصرفية في بلد ما»، لافتاً إلى أنه «في لبنان بيئة الإستثمار ليست جاذبة في أي ناحية، أي لا قضاء فعّال ولا أمن ولا قطاع مصرفي فعّال، وحالياً السعودية والامارات وقطر والكويت تتصدّر المشهد الإستثماري».
عسيران: الأمن من ركائز الإستثمار
يوضح الخبير الإقتصادي صلاح عسيران أن «هناك معايير حتمية لجذب الإستثمارات، أي أن يكون هناك قضاء عادل وسريع وفعّال، وأمن منتشر في كل أنحاء الجمهورية اللبنانية»، لافتاً إلى أن «المعايير التي تساعد على جذب مستثمرين أكثر، تهيئةُ بنى تحتية (كهرباء، أنترنت سريع ورخيص، تأمين النقل والمرافئ)، ومن دون هذه العناصر والمعايير، لا أمل لنا بجذب المستثمرين».
يضيف عسيران: «من البديهي أيضاً أن يكون لدينا نظام مصرفي فعَال وآمن وأمين ومنافس، وكل هذه المعايير متكاملة ومتضامنة وضرورية، ولا يُمكن جذب مستثمرين في حال نقص أيّ من هذه المعايير».
ويختم عسيران قائلاً: «في لبنان، هناك إعتداءات إسرائيلية على لبنان، ولكن مع إنتظام المؤسسات الرسمية (إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة)، بات هناك بارقة أمل للإصلاح والنهوض، وعلى الحكومة أن تُثبت أنها على قدر آمال اللبنانيين ولا نزال في البداية. أما في المملكة العربية السعودية والامارات ومصر فهذه الدول تُعتبر الأكثر جذباً للإستثمارات، إما بسبب إمتلاكهم أسواقاً كبيرة أو بسبب إمتلاكهم محفّزات كبيرة أو البيئة الحاضنة للنمو، وعلى سبيل مثال، إن مصر تعاني إقتصادياً، لأنها نفّذت مشاريع بنى تحتية كان يجب أن تنفذ منذ 80 عاماً، وقد تم تنفيذها في خمس سنوات وهذا ما أدى الى صعوبات إقتصادية، ولكن الركائر الإقتصادية للإستثمار موجودة بقوة في مصر».