لم تتبنّ القمّة العملة الموحّدة لإسقاط الدولار عن عرش التسويات المالية والإقتصادية
قمّة بريكس 2024 في روسيا واجهت تحدّيات
عدم إمتلاك برامج للنهوض الجماعي للأعضاء أو لتحسين أوضاع الإقتصاد
خلاصات قمّة «بريكس» 2024 تعكس الرغبة في تعزيز
التعدُّدية الجانبية وإقامة نظام دولي أكثر عدلاً
لم تختلف أجواء الإقتصاد العالمي في خريف 2024 عمّا كانت عليه في أغسطس/آب 2023 عندما عُقدت قمة بريكس في جنوب أفريقيا، لكن الجديد في قمّة روسيا2024 ، إعتمادُ الولايات المتحدة خفض الفائدة وتوقعات بإستمرار التيسير النقدي، إلى جانب تراجع أسعار النفط مؤخراً، وإن كانت قد إرتفعت بصورة طفيفة في وقت لاحق، بسبب الحرب على غزة ولبنان والتداعيات المحتملة لضرب إيران.
وقد أعاد إعلان قازان المنبثق عن قمّة «بريكس»، التأكيد على الرغبة الجماعية لدول «بريكس» في تعزيز التعدُّدية ودعم السلام وخلق نظام دولي أكثر عدالة، مجدّداً إلتزام القادة «التعدُّدية وتعزيز القانون الدولي، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة كحجر زاوية»، مؤكدين أنه «يتعيّن على الدول السيادية أن تتعاون من أجل الحفاظ على السلام والأمن والتنمية المستدامة على الصعيد الدولي».
ورغم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد فاجأ العالم خلال إجتماعات قمّة «بريكس» الـ 16، بحمله نسخة من عُملة أطلق عليها «عملة بريكس»، وهو ما أثار ضجة إعلامية كبيرة في الغرب (دول أوروبا الغربية وأميركا)، إلاّ أن هذا الإعلان عُدّ مبكراً جداً، حيث إن المجموعة الإقتصادية الجديدة لا تزال في بدايتها، ولا تزال تتفاوض على إستخدام العملات المحلية في التعاملات التجارية بينها، ولم تُنفذ ذلك حتى تاريخه، فضلاً عن تأخرها في إعلان عملة موحّدة للمجموعة.
ورغم الحرب الروسية – الأوكرانية التي لا تزال مستمرة حتى تاريخه، توافد إلى هذا الإجتماع الـ 16 في روسيا، نحو أكثر من 32 وفداً دولياً على مستوى رفيع جداً، مما يُظهر قوته. ومن بين هذه الوفود، لوحظ حضور الوفد التركي، والذي طلب الإنضمام إلى «بريكس»، بصفته ذلك التجمُّع الإقتصادي العالمي.
ومن نقاط جدول أعمال هذا الإجتماع، برز الحدّ من الدولرة الدولية ومواجهتها، وهذا الأمر ليس بسيطاً، إضافة إلى تبادل المعلومات المالية والنقدية، ما بين بلدان «بريكس»، إلاّ أن النقطة الأهم في هذا الإجتماع، كانت إقامة نظام مالي ونقدي ما بين بلدان «بريكس»، وصولاً إلى إقامة نظام سويفتSWIFT دولي جديد يتعلق بالدفع ما بين هذه البلدان، حيث يُسمّى بالـ «BRICS Pay»، ورغم أن هذه النقاط لم يتحقق شيء منها، إلاّ أن هذا النظام الجديد سيؤدي إلى الخروج من نظام السويفت الدولي، معتمداً نظاماً جديداً، ما بين بلدان «بريكس». وهذا يعني أيضاً أننا نتّجه اليوم نحو تجمُّعات إقتصادية على نحو أكبر وأقوى مما كانت سابقاً، لكن في الوقت عينه نتّجه نحو إنقسامات سياسية، مالية، نقدية وإقتصادية ما بين الشرق والغرب.
الإنتقادات للتدابير الأحادية والعقوبات
وقد كانت إحدى الأولويات المطروحة في إعلان قازان هو الإدانة للتدابير القسرية الأحادية غير القانونية، بما في ذلك العقوبات الإقتصادية، ووصف الإعلان هذه التدابير، التي غالباً ما يُفرض بعضها خارج إطار الأمم المتحدة، بأنها تتسبّب في تعطيل الإقتصاد العالمي والتجارة الدولية، وقال القادة بحسب الإعلان: «تُقوّض هذه التدابير ميثاق الأمم المتحدة ونظام التجارة متعدّد الأطراف، وتعوّق تحقيق الأهداف الإنمائية المستدامة».
وأكد قادة «بريكس» ضرورة وجود نظام إقتصادي عالمي عادل وشامل، ودعوا إلى إجراء إصلاحات في مؤسسات بريتون وودز، مثل صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي، كما دعوا إلى زيادة تمثيل الأسواق الناشئة والدول النامية في عمليات إتخاذ القرار العالمية.
إلتزام النظم الإقتصادية متعدّدة الأطراف
أعادت دول «بريكس» تأكيد دعمها لنظام تجاري متعدّد الأطراف قائم على قواعد مفتوحة، شفّافة وعادلة، بحيث يتركّز هذا النظام التجاري على منظمة التجارة العالمية WTO، كما رفضت هذه الدول القيود التجارية الأحادية التي لا تتوافق مع قواعد WTO، معتبرين أنه من الضروري تعزيز الحوار والتعاون للإصلاحات في النظام المالي الدولي.
وبما يتوافق مع هذه الرؤية، أشاد إعلان قازان بنتائج المؤتمر الوزاري الثالث عشر لمنظمة التجارة العالمية الذي عُقِدَ في أبو ظبي (الإمارات العربية المتحدة)، وأعاد تأكيد الإلتزام بإصلاح منظمة التجارة العالمية لجعلها أكثر مرونة وشمولية: «نتفق على تعزيز حوارنا حول النظم التجارية متعدّدة الأطراف ونرحب بإنشاء «بريكس» للإطار التشاوري غير الرسمي حول قضايا منظمة التجارة العالمية»، وفق ملاحظات القادة.
دور «بريكس» في الأمن المالي العالمي
أبرز الإعلان أيضاً أهمية الحفاظ على شبكة أمان مالي عالمي قوي وفعّال في صندوق النقد الدولي، القائم على الحصص النسبية والمستوى الكافي من الموارد في صميمه، ودعا قادة «بريكس» إلى إصلاح الصندوق لتعزيز تمثيل الدول النامية، وضمان عملية إختيار تعتمد على الجدارة وتكون شاملة لمناصب القيادة. بالإضافة إلى ذلك، أقرّت دول «بريكس» بأهمية الدور الذي يلعبه البنك الجديد للتنمية (NDB) في تعزيز تنمية البنى التحتية والنمو المستدام في الدول الأعضاء. وتعهد القادة في توسيع تمويل البنك بالعملات المحلية ودعم آليات التمويل المبتكرة لتعزيز التنمية في الأسواق الناشئة.
وختم قادة «بريكس» إعلان قازان بإعادة تأكيد إلتزامهم تعزيز الإستقرار العالمي والتنمية الشاملة وإصلاح المؤسسات متعدّدة الأطراف، لتعكس بشكل أفضل واقع القرن الحادي والعشرين، طارحين رؤية طموحة لنظام عالمي متعدّد الأقطاب، حيث تلعب الإقتصادات الناشئة والنامية دوراً أكبر في تشكيل الحوكمة العالمية والسياسات الإقتصادية، مجدّدين إعادة التأكيد على أهمية الجماعة الإستراتيجية في التعامل مع التحدّيات العالمية، وتعزيز التعاون بين دول الجنوب العالمي. وستُعقد القمّة المقبلة لدول «بريكس» في البرازيل في العام 2025، مع جدول أعمال يُركّز على تعميق التعاون الإقتصادي والسياسي والثقافي بين الدول الأعضاء.
تحدّي وجود إتفاقيات موحّدة
يضم تجمّع «بريكس» خليطاً من الإقتصادات ذات المستويات المختلفة، فالصين تتقدم كافة إقتصادات الدول الأعضاء بفارق كبير، وتشكل قمّة أداء هذه الدول، فضلاً عن وجود أعضاء الدول الصاعدة مثل الهند والبرازيل وروسيا.
في المقابل، ثمّة دول أخرى، إنضمت إلى الـ «بريكس»، تتميّز إقتصاداتها بالمتواضعة مقارنة بالصين أو الدول المتقدمة، مثل مصر وإثيوبيا وإيران، كما يضم التجمّع من الدول النفطية المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وتتلخص مصادر القوة الإقتصادية لهما فقط في الموارد النفطية.
وقد أُنشئت مجموعة «بريكس» في العام 2006 من قبل روسيا والبرازيل والهند والصين، وإنضمّت جنوب أفريقيا إلى المجموعة في العام 2011. وفي بداية العام 2024 إنضمّت 5 دول إلى «بريكس» هي مصر والإمارات والسعودية وإيران وإثيوبيا، ويبلغ تعداد سكان دول «بريكس» حوالي 45.2 % من تعداد سكان العالم، وتبلغ قوة التجمع الإقتصادية نحو 23 % من الناتج المحلي العالمي.
وتُشير أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي للصين (صاحبة أكبر إقتصاد في «بريكس») قد بلغ 17.7 تريليون دولار، في حين أن إثيوبيا، وهي أفقر دول التجمُّع، لديها ناتج محلي إجمالي في حدود 163 مليار دولار فقط.
ومنذ إنشاء تجمّع «بريكس» أو توسعة عضويته في العام 2023 لم يلحظ «إتفاق بريكس»، أيّ إتفاقيات منظمة للتجارة البينية لأعضاء التجمُّع، أو وجود برامج تعمل على تقوية الأوضاع الإقتصادية لأعضائه، فما تمّ في معظمه إن لم يكن كلّه، هو نتاج علاقات بينية بين كل دولتين وبعضهما بعضاً، من دون وجود آلية جماعية لأعضاء «بريكس».
كما لم يُشرع في تكوين مؤسسات يُمكن إعتبارها في إطار «كونفدرالي» تنسيقي على مستوى القطاعات أو السياسات لدول «بريكس»، سواء في ما يتعلق بالسياسات الإقتصادية أو التنموية أو القطاعية، وما وُجد حيال بنك البنية الأساسية في الأصل هو مشروع صيني بإمتياز، وإن كانت الصين قد وظّفت أعضاء تجمّع «بريكس» بشكل جيد في إطلاقه، وكأنه نابع عن رغبة جماعية لأعضاء «بريكس»، بينما الواقع خلاف ذلك من خلال حصص رأس المال، التي تسيطر عليها الصين بنسبة 26 %. علماً أن بقية الدول الأعضاء (نحو 56 دولة) تمتلك بقية حصص رأس المال.
العملة الموحّدة
لطالما حلم البعض بإصدار عملة موحّدة لـ «بريكس» منذ إنعقاد قمّة جنوب أفريقيا في العام 2023، وكان البعض يتمنّى أن تتبنّى قمّة روسيا 2024 أمر العملة الموحّدة، ليبدأ تجمع «بريكس» أولى خطواته لإسقاط الدولار من عرش التسويات المالية والإقتصادية أو تراجع مكانته، إلاّ أن العملة الموحّدة قد تم الترويج لها منذ شهور من قبل وسائل إعلام روسية بأنها ستُطرح للدراسة في قمّة روسيا 2024، لكن الأمر إتخذ إتجاهاً آخر بنفي المصادر الروسية نفسها أن يكون الأمر مُدرجاً في أجندة القمّة.
مقارنات غير حقيقية
يحلو للبعض أن يعرض مقارنات بين أداء دول «بريكس» ومنظّمات أخرى مثل مجموعة السبع الصناعية أو الإتحاد الأوروبي، وهي في الحقيقة مقارنات لم تُبن على أسس صحيحة، ففي حالة «بريكس» لا يعدو الأمر تجميع إحصاءات، علماً أن الواقع في مجموعة السبع الصناعية والإتحاد الأوروبي مختلف، فهما قائمان على وحدة السياسات، كما هي الحال في الإتحاد الأوروبي، أو على الأقل وجود درجة عالية من التنسيق كما هي الحال في مجموعة السبع الصناعية.
المعضلة الكبرى التي تواجه تجمّع «بريكس» أنه لا يمتلك حتى تاريخه، برامج للنهوض الجماعي للأعضاء أو لتحسين أوضاع الإقتصاد.
لا تشكّل تحدّياً
لكل شيء ثمن، وإن كانت الأمور في ما يتعلق بالمال والإقتصاد ينبغي أن تؤخذ في إطار الدراسة والقدرة على تحمُّل المخاطر. علماً أن ثمّة خطوات إتُخذت على صعيد بنك البنية الأساسية أو تسوية قدر قليل من التجارة البينية عبر العملات المحلية، لكن كل ذلك لا يرقى إلى مطالب «بريكس» بوجود بديل لنظام التسويات المالية (سويفت) الذي تتحكّم به أميركا.
كما أن الحديث عن البحث لبديل للدولار لتسوية المعاملات التجارية والمالية على مستوى العالم، لم يُبنَ عليه عمل جدي منذ سنوات، وبالتالي فأميركا والغرب لديهما شعور بأن تجمّع «بريكس» لا يُمثل تهديداً كبيراً في ضوء أدائه الإقتصادي التعاوني، فضلاً عن غياب أي صورة للتكامل الإقتصادي.
وترأست روسيا مجموعة «بريكس» هذا العام (2024)، وخلال هذه الفترة حددت موسكو 3 أولويات وهي: السياسة والأمن، والتعاون في الإقتصاد والتمويل، والتبادلات الإنسانية والثقافية، كما نظّمت أكثر من 200 حدث سياسي وإقتصادي وإجتماعي، لتعزيز سبل تنفيذ المزيد من التعاون بين دول «بريكس».