كيف يُحيّد القطاع المصرفي عن الأزمات الأمنية والسياسية في اليمن؟
من الواضح أن الإنقسام في البنك المركزي اليمني، وما نتج عنه من إنقسام في السياسات النقدية وفي تنظيم القطاع المالي، شكل معوّقاً أمام إستعادة دور البنوك في اليمن. وفي ضوء ذلك، من المهم السماح للبنوك بإعادة تأسيس علاقاتها مع المؤسسات المالية في الخارج، حيث سينعكس إيجاباً على دور البنوك في تسهيل التجارة الخارجية للمستوردين اليمنيين، وسيُمكّنها مجدداً من إستقطاب التدفُّقات النقدية اليمنية إلى القنوات المالية الرسمية، لكن هذا يتطلّب نهجاً متماسكاً ومُوحّداً لضمان إلتزام القطاع المصرفي للبلاد المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مما يستدعي حداً أدنى من التنسيق بين فرعي البنك المركزي اليمني (في عدن وصنعاء) وتبادل البيانات، وهو ما لم يتمكّنا من الإتفاق عليه حتى تاريخه. وعليه من الضروري تحييد القطاع المصرفي اليمني عن الأزمات الأمنية والسياسية التي تلاحقت في البلاد في السنوات الأخيرة، ووضع أفق للحل، أقلُّه إستعادة ثقة البنوك المراسلة والمحافل الدولية في سبيل إقتصاد متين وقطاع مصرفي أفضل.
لا شك في أن القطاع المصرفي في اليمن تضرّر بشدّة، جرّاء إنقسام البنك المركزي اليمني في سبتمبر/ أيلول 2016 إلى فرعين متنافسين تابعين لطرفي النزاع الرئيسيين. وتتمحور أهم المشاكل الأساسية التي تعانيها البنوك اليمنية في إعتماد عملتين مختلفتين في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً والمناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، إلى جانب تنافس المراكز الرئيسية للقطاع المالي ممن إعتمدت إجراءات قمعية متزايدة في محاولة لترسيخ سلطتها الحصرية على النظام المصرفي. كما تفاقمت أزمة السيولة التي كان يعانيها أساساً القطاع المصرفي من قبل إنقسام البنك المركزي، وباتت متّسمة بتعقيدات أكبر.
وقد شهدت الحرب الإقتصادية بين الأطراف المتنازعة تصعيداً جديداً مؤخراً، حيث بدأت قوات الحوثيين في النصف الأخير من أكتوبر/ تشرين الأول 2016، بإستهداف موانئ تصدير النفط التابعة للحكومة جنوبي البلاد، الذي ألحق أضراراً بإيرادات الحكومة نتيجة تعليق مبيعات النفط. وقد ردّت الحكومة بتصنيف جماعة الحوثيين «منظمة إرهابية»، إلى جانب تبنّي سلسلة من التدابير الإنتقامية، ركّزت على ضمان هيمنة الحكومة على القطاع المصرفي والمالي على الصعيد الوطني.
وتفاقمت مشاكل الحكومة المالية في مطلع العام 2023 بعد شروع سلطات الحوثيين في حملة للضغط على التجار المستوردين بإعادة توجيه الشحنات من الموانئ التي تضع الحكومة يدها عليها إلى ميناء الحديدة الخاضع لسيطرتها.
وأدّى التصعيد العدائي بين الطرفين المتحاربين حتى تاريخه (منتصف العام 2024) إلى عرقلة الجهود المبذولة للتوسُّط في حلّ القضايا الحرجة التي تشلّ عمل البنوك في البلاد، وتبدو فرص نجاح جهود الوساطة ضعيفة للغاية في هذه المرحلة. رغم هذا، من المهم مواصلة تقييم الخطوات العملية والأكثر واقعية للتعامل مع آثار إنقسام البنك المركزي اليمني على القطاع المصرفي متى ما سُنحت الفرصة للقيام بذلك.
آثار الحرب على القطاع المصرفي وإنقسام «المركزي اليمني»
منذ مطلع العام 2016، أدى تراجع الثقة في النظام المصرفي لدى التجار اليمنيين ورجال الأعمال الأثرياء إلى تدفُّقات مالية ضخمة من شبكات الأموال الرسمية إلى الشبكات غير الرسمية. منذ ذلك الحين، واجهت البنوك أزمة سيولة متزايدة في العملات الأجنبية والمحلية على حد سواء، مع تناقص أوراق الريال اليمني المتداولة والمتوافر منها للإيداع في البنك المركزي اليمني.
لاحقاً، بدأ إحتياطي البنك المركزي من الأوراق النقدية للريال في النفاد بسرعة، مع منع الحكومة اليمنية، التي إتخذت من عدن «عاصمة مؤقتة» لها في ذلك الوقت، البنك المركزي اليمني من طباعة أوراق نقدية جديدة.
وفي أغسطس/ آب 2016، أوقف البنك المركزي اليمني سداد رواتب معظم موظفي الدولة على أساس منتظم، مع إستنفاد كامل مخزون العملات الأجنبية والمحلية تقريباً.
في سبتمبر/ أيلول 2016، أصدر الرئيس عبد ربه منصور هادي قراراً بنقل مقرّ البنك المركزي اليمني إلى عدن، وهو ما أدى إلى إنقسام البنك المركزي اليمني إلى كيانين متنافسين: إحتفظ «المركزي اليمني» في صنعاء الخاضعة للحوثيين بالبنية التحتية المادية، وأرشيف المعلومات، ومعظم الكوادر البشرية التي كانت تعمل لدى البنك المركزي الأم، إضافة إلى سيطرته على أكبر المراكز المالية والتجارية والسكانية في البلاد. من جانبه، حاز البنك المركزي في عدن على الإعتراف الدولي بكونه البنك المركزي للبلاد، مع الإحتفاظ بالإمتيازات المرتبطة به.
نتيجة ذلك، علّق كلا الفرعين سداد الإلتزامات المستحقة عليهما من الدين العام، ما أدى إلى تحويل أذون الخزانة المملوكة للبنوك إلى أصول عالقة. في أغسطس/ آب 2019، جمّد البنك المركزي في صنعاء الفوائد المركبة (التراكمية) على أذون الخزانة، ووافق مجلس الوزراء التابع للحوثيين في صنعاء لاحقاً، تحديداً في سبتمبر/ أيلول 2022، على مشروع قانون يُحظّر التعاملات المالية القائمة على الفائدة (المرتبطة بأذون الخزانة والسندات الحكومية) بإعتبارها تعاملات ربوية، في خطوة تهدف إلى أسلمة النظام المالي بشكل كامل.
وقد درست وزارة المالية والبنك المركزي في صنعاء حالياً، مقترحاً بسحب أكثر من 1.7 تريليون ريال يمني (تحتفظ بها البنوك اليمنية كأذون خزانة محلية) من نظام الدين العام، وتحويل قيمتها إلى أرصدة غير قابلة للسحب نقداً لدى البنك المركزي اليمني. بمعنى آخر، أجبر مشروع القانون الجديد البنوك التجارية على إلغاء الفوائد على الودائع، إلاّ أن سلطات الحوثيين لم تطرح أي أدوات بديلة للتمويل الإسلامي لإعادة إستثمار هذه الأصول العالقة حتى تاريخه. علماً أن الحوثيين يهدّدون بأسلمة نظام أدوات الدين، بمفاقمة أزمة السيولة التي تعانيها البنوك، مما يجعلها أقلّ قدرة على الوفاء بإلتزاماتها تجاه العملاء، ويُزعزع الثقة في الخدمات المصرفية التجارية والمساس بملاءتها المالية.
ومع تشكيل مجلس القيادة الرئاسي للبلاد في أبريل/ نيسان 2022، أعلنت كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية الموحّدة دعماً مالياً بقيمة مليار دولار للحكومة اليمنية، مما ساعد على إنتعاش أسعار صرف الريال من الأوراق النقدية الجديدة والقديمة، لكن الرياض وأبو ظبي إشترطتا على الحكومة والبنك المركزي في عدن تنفيذ إصلاحات مؤسسية لتقديم الدعم المُشار إليه، وهو ما أخّر الإفراج عن المبالغ المُتعهد بها من قِبل الدولتين.
تسييس عملية إصدار خطابات الإعتماد
قبل إندلاع الصراع، إعتمد التجار بشكل أساسي على البنوك اليمنية لتحويل الأموال اللازمة لشراء وإستيراد البضائع والسلع الأساسية من الخارج، علماً أن الدولة تستورد نحو 90 % من الإحتياجات الغذائية للسكان. وقد تأثرت البنوك اليمنية منذ بدء الصراع بالتدابير التي إتخذتها المؤسسات المالية الغربية للحدّ من المخاطر، مما قيّد قدرتها على تسهيل التجارة الخارجية. لذلك، لجأت البنوك لاحقاً إلى إستخدام المصارف اللبنانية كوسيط لربطها بالشبكات المالية العالمية، لكن سرعان ما تعطّلت هذه الإجراءات مع الأزمة المالية التي إجتاحت لبنان في مطلع العام 2020 وفرض الأخيرة ضوابط على رؤوس الأموال، منها تجميد مئات الملايين من الدولارات من الأموال اليمنية في النظام المالي اللبناني.
الشبكات المالية غير الرسمية تحلّ محل البنوك
في ظل العجز الكبير الذي تعانيه البنوك اليمنية في تلبية إحتياجاتهم، لجأ التجّار في السنوات الماضية إلى طرق بديلة لتمويل تجارتهم، عبر الإستعانة بجهات فاعلة غير رسمية وغير منظمة في القطاع المالي، وهي شبكات الحوالات ومؤسسات الصرافة. على هذا الأساس، توسّعت الشبكات المالية غير الرسمية بسرعة من حيث العدد والنفوذ خلال فترة النزاع. علماً أن حجم المعاملات المالية التي تنفذها هذه الشبكات والمؤسسات غير واضح، نظراً إلى الطبيعة غير المنظمة لها، إلاّ أن الوحدة الإقتصادية في مركز صنعاء تقدّر بأن حجم الحوالات المالية التي تجري حالياً عبر هذه الشبكات والمؤسسات داخل البلد وإلى الخارج تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً. وقد لعب التشرذم في البيئة الرقابية دوراً في تسهيل نمو الشبكات المالية غير الرسمية، في ظل محاولات كل من فرعي البنك المركزي اليمني في صنعاء وعدن تقويض جهود بعضهما والسيطرة على القطاع المالي.
دعم مالي جديد (بالعملة الأجنبية) للحكومة اليمنية
في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، أعلنت الحكومة اليمنية موافقة صندوق النقد الدولي على منح دعم مالي لليمن بقيمة 300 مليون دولار من حقوق السحب الخاصة. وقد تلقت الحكومة اليمنية دعماً إضافياً بالنقد الأجنبي في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني، حيث أعلنت الحكومة اليمنية وصندوق النقد العربي إتفاقية دعم مالي بقيمة مليار دولار (مموّلة من السعودية) من المقرر أن تستمر حتى العام 2025. وعلى الاثر، أعلنت الحكومة اليمنية ضخ دولة الإمارات نحو 300 مليون دولار من النقد الأجنبي في البنك المركزي في عدن. علماً أن المملكة العربية السعودية كانت قد أعلنت مؤخراً عن عزمها إيداع مليار دولار إضافية لدى البنك المركزي في عدن.
التطلُّع إلى المستقبل والتوصيات
يُمكن القول، إن الظروف الحالية في اليمن غير مواتية للتوسُّط في حل القضايا التي تؤثر على القطاع المصرفي، نظراً إلى إختلاف هذه المرحلة عن أي مراحل أخرى منذ بدء الحرب. علماً أن أجندة التسوية الشاملة غير مطروحة على طاولة المفاوضات، وبالتالي، يجب أن يكون هناك تدخُّلات موجّهة ودقيقة تركز على إستغلال الفرص المحدودة التي لا تزال قائمة لإبطاء ترسّخ البيئات النقدية والأنظمة المصرفية المنقسمة داخل اليمن، وفي الوقت عينه، تمهد الطريق أمام تعزيز التنسيق الفني بين فرعي البنك المركزي اليمني المتنافسين، وعليه ينبغي معالجة كافة مشاكل القطاع المصرفي في الوقت الحالي، كخيارات تتضمّن إجراءات واقعية أكثر قابلية للتحقيق في ظل الظروف الراهنة، التي يُمكن أن تمهّد لأي خطوات مستقبلية نحو الإصلاح الشامل.
في هذا السياق، وفي محصّلة ما ورد ذكره، يتعيّن على صنّاع القرار تحييد القطاع المصرفي اليمني عن الصراعات والأزمات السياسية والأمنية من خلال التالي:
– منع إستبعاد البنوك اليمنية من مزادات بيع العملات الأجنبية التي يُقيمها البنك المركزي في عدن، ويشمل ذلك وضع خطة عملية لحماية القطاع المصرفي من الإقتصاد السياسي للصراع وتقديم حل وسط في مسألة تبادل البيانات المصرفية، بهدف تعزيز إمتثالها لقوانين مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
– إستئناف التدفقات المالية عبر القنوات الرسمية ومعالجة أزمة السيولة في القطاع المصرفي، عبر إستخدام الآليات الحالية وأي حلول مرتقبة في مجالات أخرى، مثل الجهود التي تقودها الأمم المتحدة للتوصُّل إلى إتفاق بين الأطراف المتحاربة حيال سداد رواتب موظفي القطاع العام في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
– ينبغي أن يراعي أي إتفاق أوسع بين الأطراف المتحاربة، تسهيل إجراءات سداد رواتب موظفي القطاع العام عن طريق القطاع المصرفي.
– تخصيص جزء من دعم صندوق النقد الدولي (من حقوق السحب الخاصة) لسداد أرصدة البنوك من العملات الأجنبية المجمّدة حالياً لدى البنك المركزي اليمني، وهو ما سيُمثل خطوة أخرى نحو معالجة أزمة السيولة التي تعانيها البنوك والسماح لها بالوفاء بإلتزاماتها تجاه ودائع العملاء. في المقابل، يجب على البنك المركزي في صنعاء السماح للبنوك العاملة في مناطق سيطرة الحوثيين بمشاركة سجلاّت بياناتها المصرفية مع البنك المركزي في عدن. علماً أنه على كلا الطرفين المتحاربين إستيعاب أن الغرض الرئيسي من تبادل بيانات المعاملات المصرفية هو تحسين قدرة البنوك على الإمتثال لمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومن هذا المنطلق عليهما الإمتناع عن إستخدام هذه البيانات كأداة للحرب الإقتصادية. ومتى ما أُتيحت الفرصة لخفض التصعيد، يتعيّن العمل على تحقيق الحد الأدنى من التنسيق بين فرعي البنك المركزي في صنعاء وعدن، مما سيُساعد في الحدّ من السياسات المتضاربة حول تنظيم وإدارة المعاملات المالية داخل القطاع.
– أهمية إلزام الأطراف المتحاربة بعدم إستخدام البنوك اليمنية كأداة في حربها الإقتصادية الجارية. علماً أن تصنيف الحكومة مؤخراً لجماعة الحوثيين منظمة إرهابية، يُمكن أن يضع القطاع المصرفي في دائرة الإستهداف خلال الحرب الاقتصادية المستمرة، ومن ثم، يتعيّن على الحكومة عدم شمل البنوك في خطتها الرامية إلى فرض عقوبات على الكيانات المالية والجهات الفاعلة التي يُزعم أنها مرتبطة بجماعة الحوثيين وإدراجها في القائمة السوداء.
– يجب على الحوثيين وقف الإجراءات القسرية التي يُمكن أن تزيد من عزل القطاع المصرفي عن النظام المالي العالمي، وتقويض إلتزام البنوك معايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. علماً أن ذلك يتطلب مقاربة شاملة لإحلال السلام، تستند إلى دوافع مشتركة للأطراف المتحاربة لوقف التصعيد والتنسيق حيال تنظيم المعاملات في القطاع المصرفي وإخضاعها للرقابة، مع تهيئة البيئة المواتية لتوحيد النظام المصرفي، متى ما سمحت الظروف السياسية بذلك.