كيفية تطوير مهارات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
المخاطر السيبرانية تمثّل تهديداً متنامياً يعوّق فعّالية الجهود الوطنية والدولية
شهد العالم المالي والمصرفي خلال السنوات الأخيرة تصاعداً لافتاً في وتيرة المخاطر المرتبطة بجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، نتيجة التعقيدات المتزايدة في حركة رؤوس الأموال، وتنامي إستخدام التكنولوجيا في العمليات المالية، وإزدياد الروابط بين الشبكات الإجرامية العابرة للحدود.
في هذا السياق، لم تعد إجراءات الإمتثال التقليدية كافية لضمان الحماية المؤسسية، بل أصبح من الضروري تطوير مهارات متقدمة ومتكاملة تُمكّن العاملين في المؤسسات المالية من التنبُّه المبكّر والتحليل الدقيق وإتخاذ قرارات إستباقية للحد من هذه الجرائم المعقّدة والمتغيّرة.
تعتمد كفاءة أي منظومة مكافحة فعّالة على جودة الموارد البشرية وإمتلاكها للمهارات اللازمة في ثلاثة محاور حيوية ومترابطة: أولها إدارة مخاطر التشغيل وسوق الإئتمان، حيث تُعتبر هذه المجالات من البيئات الخصبة التي قد تُستغل لتنفيذ عمليات مشبوهة في حال غياب الرقابة الدقيقة، وثانيها إستمرارية الأعمال وإدارة الأزمات، خصوصاً في ظل تزايد الهجمات الإلكترونية المعقدة التي تستهدف البنى التحتية للمصارف وقد تُستخدم كوسيلة لتمرير أو إخفاء عمليات غسل الأموال، أما المحور الثالث فهو الإمتثال للعقوبات الدولية، وهو مجال قانوني حسّاس يتطلّب قدراً عالياً من الوعي المهني والمعرفة الدقيقة بالأنظمة الدولية، لما يشكله من خطر مباشر على سمعة المصرف وإستقراره في حال التقاعس أو الخطأ في التطبيق.
إدارة مخاطر التشغيل وسوق الإئتمان في سياق مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
تمثل إدارة المخاطر التشغيلية ومخاطر الإئتمان عنصراً محورياً في قدرة المؤسسات المالية على مكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، نظراً إلى أن هذه المخاطر غالباً ما تُشكل نقاط ضعف يُمكن إستغلالها من قبل الفاعلين غير الشرعيين في تنفيذ عملياتهم المالية المشبوهة. وقد يؤدي غياب الكفاءة المؤسسية في التعامل مع هذه المخاطر إلى إختراقات خطيرة تمسّ سلامة الأنظمة، وتهدّد السمعة القانونية والمالية للمؤسسة.
وهنا إضاءة على المخاطر المرتبطة بجرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب:
- المخاطر التشغيلية: تُعرف المخاطر التشغيلية بأنها الخسائر المحتملة الناتجة عن عدم كفاية أو فشل في الإجراءات أو الأشخاص أو النظم الداخلية، أو بسبب أحداث خارجية. وتشمل هذه المخاطر الإحتيال الداخلي، الخطأ البشري، الفشل التكنولوجي، وسوء الإدارة. وتكمن خطورة هذه المخاطر في أنها قد تُشكل مدخلاً رئيسياً لتمرير عمليات غسل الأموال، إما من خلال التلاعب اليدوي في بيانات العملاء، أو ضعف آليات التدقيق والرصد. ففي حال ضعف إجراءات التحقق من هوية العملاء (Know Your Customer)، أو غياب الرقابة الفعّالة على العمليات غير المعتادة، فإن المصرف يصبح عرضة لإستخدامه كوسيط لغسل أموال غير مشروعة دون علمه. وبالتالي، فإن تدريب الكوادر العاملة على رصد علامات الإنذار المبكر وتحليل الأنماط التشغيلية يُعدّ إحدى الأدوات الرئيسية لتقوية منظومة الإمتثال.
- مخاطر الإئتمان وتمويل الإرهاب: تمثل مخاطر الإئتمان تحدّياً آخر مرتبطاً بشكل غير مباشر بمخاطر غسل الأموال، ولكن بشكل مباشر في حالات تمويل الإرهاب، إذ قد تسعى بعض الكيانات إلى الحصول على تمويلات مصرفية لأغراض قانونية ظاهرياً، بينما تستخدمها فعلياً في دعم أنشطة محظورة أو غير مشروعة. وتُشير التقارير الصادرة عن مجموعة العمل المالي (FATF) إلى أن المنظمات الإرهابية تستخدم القروض الإستهلاكية أو التجارية كوسائل تمويل، مستغلةً ضعف آليات التحقق من الغرض الحقيقي من التمويل.
كما أن بعض مؤسسات التمويل الأصغر عرضة لهذا النوع من الإستغلال، خصوصاً في البيئات الرقابية الضعيفة.
من هنا، فإن تطوير مهارات موظفي الإئتمان سواء في الفحص المبدئي أو في المتابعة الدورية يُعدُّ ضرورة مؤسسية، ويجب أن يشمل تقييم الجدارة الائتمانية بشكل معزّز بمعلومات غير مالية (إجتماعية أو سلوكية)، والتحقّق من مصادر الدخل وأوجه إستخدام القروض، ومراجعة سلوك السداد غير المعتاد، وأخيراً التنسيق المستمر مع وحدات الإمتثال لضبط أي تقاطع مع كيانات أو أفراد ذوي مخاطر.
تداعيات المخاطر السيبرانية على إمكانية مكافحة غسل الاموال وتمويل الإرهاب
أصبحت المخاطر السيبرانية تمثّل تهديداً متنامياً يعوّق فعّالية الجهود الوطنية والدولية الرامية إلى مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، حيث أوجدت بيئة رقمية معقّدة تسمح للمجرمين والجهات غير المشروعة بإستغلال التكنولوجيا لأغراض إخفاء وتوجيه الأموال بطرق يصعب تعقّبها. ومع تزايد الإعتماد على البنية التحتية الرقمية في العمليات المصرفية، باتت المؤسسات المالية أكثر عرضة للهجمات الإلكترونية، التي قد تؤدي إلى تعطيل أنظمة المراقبة الآلية، وتسريب أو تعديل البيانات الحساسة، وإضعاف قدرات وحدات الامتثال على كشف الأنشطة المالية غير المشروعة في الوقت المناسب.
ومن أبرز التأثيرات المباشرة للمخاطر السيبرانية على أنظمة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب هو إختراق أو تجاوز نظم «إعرف عميلك -KYC »، و«تحليل المعاملات المالية» (Transaction Monitoring)، مما يسمح للجهات الإجرامية بإخفاء هوياتها الحقيقية، أو استخدام هويات مزيفة في فتح حسابات وإجراء تحويلات عبر الحدود. كما تُعقّد هذه المخاطر عمل وحدات الإستخبارات المالية والسلطات الرقابية، التي تعتمد بشكل متزايد على البيانات الرقمية في تتبع سلاسل التمويل وتحليل الشبكات المالية المرتبطة بالأنشطة الإرهابية أو غسيل الأموال.
كذلك، فإن التحوّل إلى القنوات الرقمية والإعتماد على تقنيات مثل الخدمات المصرفية المفتوحة (Open Banking)، والتطبيقات المالية غير المصرفية، والعملات المشفّرة ومنصّات التمويل اللامركزي (DeFi)، زاد من التحدّيات التي تواجه وحدات الإمتثال، إذ إن العديد من هذه الأدوات تفتقر إلى الهياكل التنظيمية الواضحة، وتعمل في بيئات قانونية غير موحّدة أو بلا رقابة كافية، مما يسمح للمجرمين بتحريك الأموال خارج نطاق التدقيق التقليدي.
كما أن المخاطر السيبرانية لا تقتصر على الجانب الفني، بل تمتد إلى التأثير على سمعة المؤسسات المصرفية، فإختراق بيانات العملاء أو أنظمة الامتثال قد يؤدي إلى فقدان ثقة الجهات التنظيمية والمستثمرين، وإلحاق خسائر مالية ومعنوية جسيمة بالمصارف، مما يدفعها إلى تبنّي نهج وقائي شامل يرتكز على التكامل بين أنظمة الأمن السيبراني ووحدات مكافحة غسل الأموال، وبناء قدرات بشرية مؤهلة لفهم الطبيعة المتغيّرة للجريمة المالية في العالم الرقمي.
وإنطلاقاً من ذلك، تُصبح الحاجة ملحّة إلى تحديث الأطر التشريعية والتنظيمية بشكل مستمر، وتعزيز التعاون بين الجهات الرقابية، ووحدات الإستخبارات المالية، والمصارف، ومزوّدي التكنولوجيا المالية، وذلك من أجل تطوير أدوات تحليل البيانات، وتطبيق تقنيات الذكاء الإصطناعي والتعلّم الآلي لرصد الأنماط المعقّدة والمبكّرة للجريمة المالية الإلكترونية. كما أن توسيع نطاق تبادل المعلومات بين القطاعين العام والخاص حيال التهديدات السيبرانية المرتبطة بعمليات غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يُعدّ عنصراً أساسياً لتعزيز الإستجابة المشتركة وتحصين النظام المالي من هذه الأخطار المتداخلة.
العقوبات الدولية في غسل الأموال وتمويل الإرهاب
تشكل العقوبات الدولية إحدى الأدوات الأساسية التي تستخدمها الدول والمنظمات الدولية للحدّ من إنتشار جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، من خلال فرض قيود قانونية ومالية وتجارية على الأفراد والكيانات المتورّطة أو المشتبه بها. وقد تطوّرت هذه العقوبات بشكل كبير في العقود الأخيرة لتصبح أكثر دقة وشمولاً، مدفوعة بتنامي المخاطر العابرة للحدود وزيادة إستخدام التكنولوجيا في تمويه العمليات غير المشروعة.
تُفرض العقوبات عادةً من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، والإتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة عبر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية OFAC، إضافة إلى عدد من الهيئات الإقليمية والوطنية. وتشمل هذه العقوبات تجميد الأصول، حظر التعاملات المالية، تقييد السفر، والمنع من الوصول إلى النظام المالي الدولي.
من أبرز القضايا التي تتداخل فيها العقوبات مع جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، هي تلك التي تتعلق بالدول الخاضعة لأنظمة عقوبات واسعة النطاق، حيث يُخشى من إستخدام البنى المالية المتبقية أو الشبكات التجارية في تلك الدول كقنوات لتمويل جماعات إرهابية أو لتدوير أموال ذات مصادر غير مشروعة. كما تستهدف العقوبات شبكات معقدة من الشركات الوهمية والحسابات المصرفية غير الشفّافة، التي تُستخدم لإخفاء مصادر الأموال أو تمويل أنشطة محظورة. وهنا تبرز أهمية الإمتثال الصارم داخل المؤسسات المالية، لا سيما من خلال تطبيق إجراءات «إعرف عميلك»، ومراقبة العمليات المشبوهة، والإحتفاظ بسجلات دقيقة يُمكن تتبعها.
إن عدم الإمتثال لهذه العقوبات يعرّض المصارف والمؤسسات المالية لمخاطر قانونية جسيمة، تتضمّن فرض غرامات باهظة، كما حصل مع عدد من المصارف العالمية التي فُرضت عليها غرامات تجاوزت المليارات بسبب خرقها لأنظمة العقوبات. إضافة إلى ذلك، فإن المخاطر تشمل تراجع السمعة، وإنخفاض مستوى الثقة من قبل المصارف المراسلة، ما قد يؤدي إلى تهميش المصرف على المستوى الدولي. لذلك، فإن فهم إطار العقوبات الدولية، وآليات تصنيف الأفراد والكيانات، وكيفية إدماج هذا الفهم ضمن سياسات الإمتثال الداخلي للمصارف، يشكل خط الدفاع الأول في مواجهة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويُعزّز من قدرة النظام المالي على حماية نفسه من الإختراق والتلاعب.