النزاع الجمركي بين الولايات المتحدة وشركائها التجاريين:
دونالد ترامب ينعش سياسته الحمائية ويُهدّد العولمة ويضع الإقتصاد العالمي على المحك
مع الهدوء النسبي في النزاع الجمركي بين أميركا وشركائها التجاريين الأساسيين في عصر الرئيسي دونالد ترامب الثاني بإستثناء الصين، بات النزاع اليوم منحصراً بشكل أساسي في الولايات المتحدة أكبر إقتصاد في العالم والصين المنافسة الرئيسية للعم سام.
هذا النزاع بين عملاقين عالمين لن يمرّ من دون ترك بصمات موجعة على كافة الإقتصادات التي تتأثر لتقلُّب هذين الإقتصادين، بعد أن يضرب أكبر إقتصادين أميركا والصين في العمق الإقتصادات المرشحة لركوب قطار المخاطر، وهي إقتصادات آسيا الكبرى والشرق الأوسط وأفريقيا وشمالها وجنوبها، في عالم يشهد خلط أوراق في نظام تجاري مهدّد بالرقابة والحمائية.
شهر نيسان/ أبريل 2025 سيبقى محفوراً في روزنامة التاريخ الحديث، بعد أزمات آسيا في التسعينيات من القرن الماضي، والرهن العقاري الأميركي 2008 وكورونا 2020، وألأزمة التي خلّفتها رسوم ترامب الجمركية والتي قد ينجم عنها تداعيات أسوأ مما شهدناه في أزمات أخرى سابقة.
الرئيس الأميركي خلال حملته الإنمائية وعد بإعادة النظر في الرسوم التجارية على غالبية سلع شركائه التجاريين الإستهلاكية الواردة إلى السوق الأميركية في مختلف أنواعها، وبحسب البلد الواردة منه والمتخصّصة في إنتاج هذه السلع. بعد فوزه بالرئاسة، حدّد ترامب النسب والتي تراوحت بين 10% و40% على غالبية شركائه، وعددهم يفوق الـ70 بلداً، في طليعتهم كندا وأوروبا والصين. وفي مطلع نيسان/ أبريل 2025 دخل تطبيق رفع الرسوم حيز التنفيذ، وقد بادرت الدول التي طالتها الزيادات بالمثل، وفرضت زيادة في رسومها على سلع الولايات المتحدة. لكن الفتيل إشتعل بن بيجينغ وواشنطن، لأن الرئيس ترامب إستمر في زياده التعريفة على السلع الصينية لتصل الى 145%، وقد بادرت الصين إلى رفع رسومها في وجه الواردات الاميركية لتصل إلى 125%.
في هذه الاثناء عمد الرئيس الأميركي إلى تعليق رسومه على كل شركائه لمدة ثلاثة أشهر، تاركاً مهلة للتفاوض بإستثناء الصين. هذه الخطوة ساهمت في عودة غالبية أسواق المال للنشاط وإستعادة خسائر بمئات المليارات تكبّدتها مطلع الشهر ذاته، وفي طليعتها بورصة هونغ كونغ التي خسر مؤشرها أكثر 13% خسارة لم تعرفها البورصة منذ العام 1997.
الرئيس الأميركي علّق تطبيق الرسوم على شركائه بإستثناء الصين، بعد أن أدرك ما نصحه به الجزاء من أن يكون حذراً من المواصلة بسياسته لأنها ستصيب إقتصاده الوطني قبل أن تصيب إقتصادات شركائه.
إن إصرار الرئيس الأميركي في المضي برفع الرسوم بحجة أن ميزان بلاده التجاري في عجز كبير مقارنة مع موازين أكثر شركائه وأن هؤلاء الشركاء لا يشترون سلعاً متعدّدة من أميركا، سيرفع سعر السلع المستوردة ويزيد من التضخُّم المستورد بنسبة 2.6% حالياً في الولايات المتحدة إلى نحو 5 %، مما سيُجبر الاحتياطي الفيدرالي للجوء إلى رفع الفائدة المصرفية تدريجاً في مسعى لجذب الإيداع والتقليل من الإقتراض للحد من الطلب، مما يُسهم بتهدئة الأسعار ويعيد مستوى الاسعار إلى نسب معقولة يسعى البنك المركزي الأميركي أو أي بنك مركزي آخر في البلدان الصناعية الكبرى إلى الحفاظ على نسبة متوسطة عند 2%.
إن خطوة البنك المركزي في رفع الفائدة لإحتواء التضخُّم ستُصيب سياسة الإقراض في الصميم للشركات والأفراد، مما يحدّ من الإستهلاك أو الإستثمار، وبالتالي سيُصاب النمو بالتباطوء والركود، وربما يصل إلى مرحلة الإنكماش مع معدّلات نمو سلبية. وهذا السيناريو يصح في الإقتصاد الأميركي، ويصح أيضاً في منافسة الإقتصاد الصيني مع فارق أن إقتصاد الصين متقدّم بنسب النمو على الإقتصاد الأول، وبالتالي سيصاب أكبر إقتصادين في العالم، وعندئذ ستنشأ تحالفات حول العالم لتقوية العصب الإقتصادي، فضلاً عن تحرّك كيانات إقتصادية كبرى نحو تحالفات وإتفاقيات مع وجهات إقتصادية أخرى، كما هي الحال اليوم مع بدء الإتحاد الأوروبي توقيع إتفاقيات للتبادل الحر مع دول آسيوية وأخرى عربية كالإمارات، في مسعى لإيجاد بديل عن الشريك الأميركي، حيث إن السوق الأوروبية تُعتبر الوجهة الأولى للسلع الأميركية. فالرئيس ترامب كان يرغب بإجراء مفاوضات مع كل دولة أوروبية في الإتحاد على حدة، إلا أن المفوّضية الأوروبية قرّرت التحدّث بصوت واحد هذه المرة بعدما أجرى ترامب خلال ولايته الأولى مفاوضات ثنائية مع دول الإتحاد. أضف إلى ذلك، من المحتمل أن تقوم الصين أيضاً بتوجيه بضائعها الهاربة من رسوم ترامب إلى الداخل الأوروبي وبأسعار متدنية، في قرار قد يغيظ الرئيس الأميركي، لكن قد يدفع إلى هبوط كبير للأسعار داخل السوق الأوروبية وهذه الظاهرة غير مستحبة Deflation.
فالسوق الأوروبية تشكّل نسبة 20% من الواردات الأجنبية للسوق الأميركية، تشكل فرنسا حوالي 4% في سلع مختلفة. المنتجات الأوروبية معظمها منتجات الحليب ومشتقاته، النبيذ، السيارات، منتجات التجميل وأدوات لتصنيع الطائرات تخضع للزيادة الأميركية، في الوقت الذي تتوعّد فيه الصين السلع الأميركية بزيادة جمركية بقرابة 125%.
فالصين تُعتبر الوجهة التجارية الثالثة في نوع معين من البضائع بالنسبة إلى أميركا بعد كندا والمكسيك، وتستورد معدّات إلكترونية وكهربائية وأخرى إلكترومغناطيسية لتصنيع السيارات الكهربائية، كما تستورد الصين النفط من أميركا ومحروقات أخرى، إضافة إلى أن الشعب الصيني أكبر مستهلك للحبوب الأميركية والفاكهة المجفّفة، وهذه السلع جميعها ثمنها يقل عن عن الحجم الذي تصدّرها الصين للولايات المتحدة كاللحوم والصويا ومأكولات أخرى، إضافة إلى خدمات التكنولوجيا والكومبيوتر والألعاب.
الإتحاد الأوروبي من جهته، يتوعد رفع الرسوم على كل ما هو معلوماتية وتكنولوجيا أميركيا، مثل شركات «غوغل»، و«آبل»، و«نت فليكس»، و«أمازون» و«مايكروسوفت» و«تسلا»، وهذه المنتجات والخدمات سيزيد ثمنها على المستهلك الأوروبي.
فالرئيس الأميركي يتّبع منهج الضغط في سياسته الحمائية ليُجبر شركائه على الإنصياع لرغباته الإقتصادية، فهو يأمل من زيادة الرسوم في خفض العجز والديون في بلاده، وأيضاً في تحقيق أحد وعوده الإنتخابية: تخفيض الضرائب. فعائدات الزيادة في الرسوم تحلّ محل أي رفع في الضريبة على الدخل أو الشركات.
فإذاً، الرئيس ترامب يريد من سياسة الضغط على شركائه إجبارهم على المجيء إلى طاولة المفاوضات، إلاّ أنه يُعرّض إقتصاد بلاده ومستهلكي بلاده للمخاطر، من رفع سعر المواد الإستهلاكية وضرب القدرة الشرائية، والحدّ من حرية الشركات الصناعية الكبرى في إختيار واردات أجبنيه ضرورية لصناعة الطائرات كشركة «بوينغ» التي تستورد قطعاً من شركة «سافران» – Safra الفرنسية ضرورية في التصنيع، كلّها منتجات ستخضع للزيادة الجمركية، وبالتالي سترفع كلفة الإنتاج، وتقلل من تنافسية شركة راية كلياً، المصنّعة في الأسواق العالمية.
فسياسات ترامب الجمركية الجديدة تضع مستقبل السوق الأميركية في مهب الريح، وتجعله عرضة لأي عاصفه، كما تضعف أساسات هذه السوق أمام أي أزمة جديدة قد تحصل في العالم اليوم.
على أية حال، عن قصد أو عن غير قصد، يعيدنا الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى سياسته الحمائية، ويغلق الباب على إقتصاد بلاده أمام الإنفتاح. فالحمائية التجارية نظرية للإقتصادي الألماني فريدريشر لیست (1846 – 1789)، والتي ترتكز على مبدأ أن تتبّع الدولة سياسة تجارية تهدف إلى حماية الإنتاج المحلي وتعطيه الأولوية في وجه أي منتج غريب يدخل السوق الوطنية. الإقتصادي الألماني قدم نظريته من وجهة نظر قومية تعمل لمصلحة الإتحاد الجمركي الألماني، كما دافع عن فرض التعريفات على البضائع المستوردة، مع دعم التجارة الحرة، لكن لصالح البضائع المحلية، معتبراً أن تكلفة التعريفة يجب أن يُنظر إليها على أنها إستثمار في إنتاج البلاد المستقبلي.
أما العولمة والتي شقّت طريقها مطلع التسعينيات من القرن الماضي، مع تمدّد إقتصاد السوق ورفع مستوى التعاون بين إقتصادات العالم، فأصبحت اليوم رهن مزاج الرئيس ترامب الإقتصادي والتبادلي.
فالعولمة الإقتصادية تدعو إلى الإنفتاح وحرية التبادل في المنتجات والخدمات والتكنولوجيا وتدفق الإستثمار والمعلومات. فإذاً، السياسة الجمركية الجديدة للرئيس ترامب تدفع بالكيانات الكبرى إلى العزلة والبحث عن تحالفات أخرى تضمن تسيير الإنتاج مع تحقيق الربح للجميع. فهل سياسة الرئيس ترامب الجمركية اليوم هي فتيل أزمة قادمة تُعيدنا عشرات السنين إلى الوراء؟
مازن حمود
محلل اقتصادي ومالي – باريس