(البيان)-16/12/2024
سنعرف عما قريب، ما إذا كانت وجهة نظر دونالد ترامب إزاء الدولار قد تغيرت، فقد كان الرئيس العائد يفضل دولاراً أضعف خلال فترته الرئاسية الأولى. وفي لحظة مهمة من العام 2019، وبينما كان يلمح ماريو دراغي، رئيس المصرف المركزي الأوروبي حينها، إلى مزيد من التحفيز النقدي، تمثلت استجابة الرئيس الأمريكي حينها، بطريقته المعهودة، في كتابة تغريدة، قال فيها إن تصريحات دراغي «هبطت باليورو على الفور أمام الدولار، مما يسهل بصورة غير عادلة عليهم المنافسة أمام الولايات المتحدة الأمريكية. لقد أفلتوا بفعلهم ذلك طيلة أعوام، ومعهم الصين وآخرون».
وقد أدى تدخل ترامب في سياسة الدولار، وهي من صميم اختصاص وزير الخزانة، إلى تحفيز اليورو على عكس اتجاهه نحو الهبوط، مما جعل السوق تدرك أن الرئيس الأمريكي يسعى بلا شك إلى دولار أضعف.
لننتقل الآن سريعاً إلى أواخر عام 2024، حيث يفترض أن تكون فترة رئاسة ترامب الثانية مختلفة. ففي أكتوبر الماضي، أكد سكوت بيسنت، المرشح وزيراً للخزانة، إلى أن ترامب من مؤيدي السوق الحرة. وصرح بيسنت: «يمكن لعملة الاحتياطي أن تتحرك صعوداً وهبوطاً وفق عوامل السوق. وأعتقد أنه سيكون لديك دولار قوي بطبيعة الأمر، طالما توجد لديك سياسات اقتصادية سليمة».
لكن ترامب يكسر القواعد ويتقن التلاعب بالتلميحات إلى تغير السياسات عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. وليس من الصعب تصوره وهو يطلب أو يطالب بتطبيق تدابير من شأنها إضعاف الدولار من شركاء تجاريين بارزين للولايات المتحدة في مقابل التساهل فيما يتعلق بالتعريفات الجمركية، وربما يكون ذلك عن طريق التوصل إلى اتفاق في منتجع مارالاغو، في تكرار لاتفاق بلازا الذي خفض قيمة الدولار في عام 1985.
لكن التساؤل عن مدى نجاح ذلك يبقى أمراً آخر تماماً، لا سيما أن علاقات العملات هي بمثابة لعبة حساسة على لوح الشطرنج الدبلوماسي، ونحن نعلم أن مثل هذه الأمور الدبلوماسية ليست من بين نقاط قوة الرئيس المنتخب.
وإن كان دونالد ترامب لا يزال يفضل دولاراً أضعف، فربما كانت الأسابيع القليلة الماضية مزعجة له بدرجة كبيره، فقد ارتفع مؤشر «دي إكس واي» للدولار، الذي يقيس العملة الأمريكية مقابل سلة مكونة من عملات أخرى، بما يقارب 3 % منذ إعادة انتخابه، فحقق مكاسب على وجه الخصوص مقابل تلك العملات المرجح أن تكون في سكة قاطرة التعريفات الجمركية، مثل اليورو واليوان الصيني.
وتنطوي مسألة تحديد الاتجاه الذي ستسلكه العملات على أكثر من مجرد مقارنة مسارات النمو الاقتصادي وأسعار الفائدة. ومع ذلك، فالأمر أيضاً لا يتطلب الكثير.
بموجب هذا الإطار، يتضح أن الدولار سيواصل الارتفاع. وستسلك الولايات المتحدة بالفعل مساراً أعلى من حيث النمو مقارنة بغالبية دول العالم، وحتى من قبل احتساب المحفزات الإضافية التي سيتبناها الرئيس المنتخب.
وإذا كان ترامب جاداً في فرض تعريفات جمركية كبيرة على الواردات، فمن شأن ذلك تقليص النمو في هذه البلدان، مما قد يسفر عن انخفاض أسعار فائدة هذه الدول رداً على ذلك الأمر. من جانبه، لا يزال التضخم الأمريكي يسجل معدلات مرتفعة، إذ صعد إلى 2.7 % على أساس سنوي وفق البيانات الأخيرة.
وفي ضوء ذلك، سيبقى خفض مجلس الاحتياطي الفيدرالي للفائدة في شهر ديسمبر بمقدار ربع نقطة مئوية قراراً قائماً، لكنه يقوض احتمالات إقرار سلسلة طويلة من التخفيضات خلال العام المقبل. وعلى النقيض، يتوقع المستثمرون مواصلة المركزي الأوروبي خفض الفائدة، مع سعيه إلى التصدي لخطر الركود، مما قد يدفع بمعدل الفائدة على الإيداع إلى مستوى منخفض عند 1.5 % مقارنة مع 3 % حالياً.
وكتب جورج سارافيلوس، المحلل لدى «دويتشه بنك»: «تشير البيانات الأمريكية بالفعل إلى اتجاه تضخمي أكبر بكثير مما كانت تدل عليه قبل أشهر قليلة». وفي الوقت ذاته، يرى المحلل أن المركزي الأوروبي قد يبدأ قريباً في القلق بشأن انخفاض التضخم دون مستهدفه البالغ 2 %.
وأضاف: «الخلاصة هي أنه حتى من دون ترامب، فهناك مجال أمام استمرار إعادة التقديرات من جانب الفيدرالي والمركزي الأوروبي، كما تظل الضغوط الهبوطية قائمة على اليورو أمام الدولار. وينطبق الأمر ذاته على كل من الصين واليوان.
فقد بات الاقتصاد الصيني عالقاً في هوة، ومن المرجح أن يواصل مواجهة الصعوبات إذا مضى ترامب قدماً في إقرار تعريفات جمركية شاملة ضد البلاد. وقد طالب القادة الصينيون منذ أيام بتطبيق مزيد من المحفزات المالية والنقدية. وتعد الجهود المضنية الرامية إلى إضعاف قيمة اليوان عن طريق شراء الدولار تكتيكاً مألوفاً عن السلطات الصينية، وذكر محللون أنهم لن يكونوا متفاجئين لدى رؤية أدلة على ذلك في العام المقبل.
وهكذا، فالكرة في ملعب ترامب، كما هي الحال دائماً، فهل سيشن هجماته على التدابير التحفيزية التي ستقرها البلدان في الخارج مثلما فعل في المرة الأخيرة حينما كان رئيساً للبلاد؟ وهل سيعتبر قوة الدولار بمثابة ثمن يستحق دفعه مقابل تعريفاته الجمركية؟ لا يعلم المستثمرون إجابات عن هذه الأسئلة، لكنهم يرون مع ذلك احتمالات لا يمكن تجاهلها بأن تسوء الأمور.
وقال سلمان أحمد، الخبير الاستراتيجي في الاقتصاد الكلي لدى «فيدليتي إنترناشونال»: «قد يتحول الأمر إلى حروب عملات». وتابع: «في الوقت الحالي، نرى تركيزاً من جانب كل من الفيدرالي والمركزي الأوروبي على أمور مختلفة بسبب التغيرات السياسية والتباين في السياسات المالية».
وسيكون واحداً من العوامل المخففة في هذا السياق توقع الأسواق بالفعل للكثير من الذي قد يقرره ترامب. لذلك، فقد ارتفع مؤشر الدولار بالفعل بنسبة 6 % منذ أواخر شهر أكتوبر الماضي، وغالباً كانت هذه هي الفترة التي صار فيها المستثمرون أكثر ثقة في فوز ترامب بالانتخابات. وقد يقلل ذلك من مكاسب العملة الخضراء في العام المقبل. وإن لم يحدث هذا، فسنكون إزاء حقبة ملؤها دبلوماسية العملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي من جديد.