(الشرق الاوسط)-11/06/2025
في عالم اليوم الذي تتشابك فيه المصالح الاقتصادية وتزداد حدة المنافسة، لم تعد الحروب تقتصر على الصراعات العسكرية المباشرة. لقد أصبحت ساحات القتال تتسع لتشمل الأسواق المالية وأسعار الصرف، حيث برز التلاعب بالعملة سلاحاً خفياً وفعالاً في الحروب الاقتصادية الحديثة. هذه الممارسة، التي قد تبدو تقنية ومعقدة للوهلة الأولى، تحمل في طياتها القدرة على زعزعة استقرار الدول، وتغيير مسارات التجارة العالمية، وإعادة تشكيل ميزان القوى الاقتصادية دون إطلاق رصاصة واحدة. وهو ما يواصل الرئيس الأميركي دونالد ترمب من التحذير منه في تصريحاته، وخصوصاً تجاه الصين واليابان اللتين يرى أنه بخفضهما عملتهما يضران بالصناعة الأميركية.
لكن ما هو التلاعب بالعملة؟
يمكن تعريف التلاعب بالعملة بأنه تدخل متعمد من قِبل الحكومات أو البنوك المركزية لتغيير قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية؛ وذلك بهدف تحقيق مكاسب اقتصادية أو تجارية. يتم هذا التدخل غالباً من خلال عمليات ضخمة لشراء أو بيع العملات الأجنبية، أو عبر التأثير غير المباشر على أسعار الفائدة، أو فرض قيود على حركة رؤوس الأموال. ويكون الهدف الأساسي عادةً خفض قيمة العملة المحلية لجعل الصادرات أكثر جاذبية، أو رفعها لتقليل تكلفة الواردات، بما ينسجم مع أولويات الدولة في كل مرحلة.
لكن هذه الممارسات قد تؤدي إلى اختلالات في النظام المالي العالمي، عبر تشويه المنافسة التجارية، وتفاقم الفوائض أو العجوزات في موازين المدفوعات، إضافة إلى إثارة ردود فعل انتقامية، مثل فرض الرسوم الجمركية أو تطبيق قيود تجارية؛ ما يعمّق التوترات الاقتصادية والسياسية على المستوى الدولي.
وقد حذّر صندوق النقد الدولي من هذه السياسات، حيث تنص مادته الرابعة على أن الدول الأعضاء «تلتزم بتجنب التلاعب بأسعار الصرف أو النظام النقدي الدولي؛ بهدف منع تعديل فعال في ميزان المدفوعات، أو لكسب ميزة تنافسية غير عادلة على حساب الدول الأعضاء الأخرى».
تجارب تاريخية
شهدت العقود الماضية أمثلة متعددة على التلاعب بالعملة. ففي اليابان خلال تسعينات القرن الماضي، تدخلت الحكومة بشكل مباشر لخفض قيمة الين دعماً للصناعات التصديرية؛ ما ساهم في إنعاش الاقتصاد الذي كان يعاني ركوداً طويلاً. أما الصين، فاتبعت نظام «التعويم المُدار» لسعر صرف اليوان، وتدخلت بشكل مباشر وغير مباشر للمحافظة على سعر صرف منخفض؛ وهو ما منحها ميزة تنافسية كبيرة في الأسواق العالمية، لكنه أيضاً جرّ عليها انتقادات دولية، خاصةً من الولايات المتحدة.
على الجانب الآخر، شهدت الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي تحالفاً مع ألمانيا واليابان في «اتفاق بلازا»، الذي هدف إلى خفض قيمة الدولار لتحقيق توازن تجاري وتخفيف الضغط على حلفائها الاقتصاديين.
آثار التلاعب بالعملة
يُعدّ التلاعب بالعملة سلاحاً حاسماً في السياسات الاقتصادية الدولية؛ لما له من تبعات بعيدة المدى على كل من الاقتصاد المحلي والدولي. ويمكن تلخيص أبرز آثارها في المحاور التالية:
- اختلال الميزان التجاري والنمو الاقتصادي: يؤدي خفض قيمة العملة إلى تعزيز تنافسية الصادرات وزيادة حجمها؛ ما ينعش الاقتصاد على المدى القصير. غير أن هذا النمو قد يكون هشاً؛ إذ غالباً ما يُقابل بإجراءات مضادة من شركاء التجارة الدوليين؛ ما يؤدي إلى عودة العجز وربما نشوب نزاعات تجارية.
- تأثيرات على سوق العمل: يؤدي ضعف العملة إلى خلق فرص عمل جديدة في القطاعات التصديرية نتيجة زيادة الطلب على المنتجات المحلية. إلا أن هذه السياسة تُثقل كاهل القطاعات المعتمدة على الواردات، التي تعاني ارتفاع التكاليف؛ ما قد يؤدي إلى تقليص الإنتاج وتسريح العمال. وبالمقابل، تعاني الدول المستوردة من السلع الرخيصة تراجعاً صناعياً وبطالة هيكلية.
- الضغوط على التضخم والسياسة النقدية: يؤدي ضعف العملة إلى ارتفاع أسعار الواردات؛ ما يرفع التضخم، ويقيّد قدرة البنوك المركزية على خفض أسعار الفائدة أو اعتماد سياسات توسعية. في المقابل، تتيح العملة القوية مجالاً أوسع للسياسات النقدية المرنة، لكنها تُضعف التنافسية التصديرية.
- الآثار على المستهلكين والشركات: يعاني المستهلكون تراجع قدرتهم الشرائية وارتفاع أسعار السلع المستوردة. أما الشركات، فتواجه زيادة في تكاليف الإنتاج؛ ما يقلص أرباحها ويضعف تنافسيتها، ويضطر بعضها إلى تقليص نشاطه أو خفض العمالة للتكيف مع الظروف الجديدة.
- مخاوف دولية من اختلال التوازنات: أدت ممارسات تاريخية كتلك التي شهدها العالم خلال أزمة الثلاثينات («إفقار الجار»)، أو «صدمة الصين» بعد التسعينات، إلى تعزيز المخاوف من أن التلاعب بالعملة يؤدي إلى نمو غير متوازن، يُضعف الطلب العالمي، ويُحفّز الأزمات المالية وتفاقم الديون، كما حصل في أزمة اليونان وعدة دول نامية.
سياسة ترمب: «أميركا أولاً» وتكثيف المواجهة
منذ عودته إلى البيت الأبيض لولاية ثانية، أعلن الرئيس دونالد ترمب تبني سياسة أكثر صرامة تجاه التلاعب بالعملة، عادَّاً إياه عاملاً رئيساً في اتساع العجز التجاري وفقدان الوظائف. وأكد أن إدارته ستستخدم كل الأدوات الممكنة، من ضمنها سلطاتها الجمركية، للتصدي لأي تلاعب مُثبت.
وترى واشنطن أن تلاعب بعض الشركاء بأسعار صرف عملاتهم أضرّ بالصناعة الأميركية، وأضعف الاقتصاد الوطني، وخلق اختلالات في سلاسل التوريد. ورغم تراجع التدخلات المباشرة في سوق الصرف مؤخراً، ترى الإدارة أن آثارها السلبية ما زالت قائمة.
وفي تقريرها نصف السنوي بعنوان «سياسات الاقتصاد الكلي والصرف الأجنبي للشركاء التجاريين الرئيسين للولايات المتحدة»، لم تجد وزارة الخزانة دليلاً قاطعاً على تلاعب أي شريك رئيس بالعملة. ومع ذلك، أُدرجت آيرلندا وسويسرا على «قائمة المراقبة» بعد تجاوزهما اثنين من ثلاثة معايير: فائض تجاري مع الولايات المتحدة يتجاوز 15 مليار دولار، وفائض في الحساب الجاري يتعدى 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتدخل صافٍ مستمر في سوق الصرف الأجنبي في اتجاه واحد. وضمت قائمة المراقبة في التقرير كلاً من الصين، واليابان، وكوريا، وتايوان، وسنغافورة، وفيتنام وألمانيا إلى جانب آيرلندا وسويسرا، مع الإشارة إلى أن جميع هذه الدول، باستثناء آيرلندا وسويسرا، كانت مُدرجة في قائمة المراقبة في تقرير نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.
وقد نفى البنك الوطني السويسري أي اتهامات تتعلق بتلاعبه في سعر صرف الفرنك، مشدداً على أن سياساته النقدية تهدف إلى دعم الاقتصاد الوطني، لا سيما في ظل الدور الذي لعبه الفرنك القوي في كبح جماح التضخم، الذي انخفض إلى مستويات سلبية خلال الشهر الماضي. وقال في بيان رسمي: «لا يتلاعب البنك الوطني بالفرنك بأي شكل من الأشكال، كما أنه لا يسعى إلى تعطيل التعديلات الطبيعية في ميزان المدفوعات أو تحقيق مكاسب تنافسية غير عادلة».
الصين تحت المجهر مجدداً
رغم أن الصين لم تُصنَّف رسمياً متلاعباً بالعملة، وجّه التقرير انتقادات حادة لها بسبب غياب الشفافية في إدارة سعر صرف الرنمينبي، والتدخلات غير المُعلنة عبر البنوك المملوكة للدولة بتوجيه من بنك الشعب الصيني. ويأتي هذا في ظل مساعي واشنطن لتجنب حرب تجارية شاملة مع بكين.
وقالت الوزارة في بيان رسمي: «لن يمنع هذا النقص في الشفافية وزارة الخزانة من تصنيف الصين في المستقبل إذا أظهرت الأدلة تدخلها، سواء عبر قنوات رسمية أو غير رسمية، للحيلولة دون ارتفاع قيمة اليوان».
وبحسب التقرير، بلغ فائض تجارة السلع الصيني تريليون دولار، أي أكثر من 60 في المائة من الفوائض العالمية، بينما ارتفع فائض الحساب الجاري إلى 2.3 في المائة من الناتج المحلي. أما الفائض التجاري مع الولايات المتحدة فبلغ 264 مليار دولار؛ ما يعمّق القلق الأميركي. وأثار التحول في بند «صافي الأخطاء والإغفالات» إلى فائض، لأول مرة منذ 2008، تساؤلات حول شفافية تدفقات رأس المال.
وتعتمد الصين على أدوات غير تقليدية في إدارة سعر صرف الرنمينبي، تشمل تحديد السعر المركزي يومياً، السماح بتداوله ضمن نطاق ±2 في المائة، توجيه البنوك الحكومية للتدخل نيابة عن البنك المركزي، التأثير غير المباشر على أسعار الفائدة خارج الصين، وفرض قيود صارمة على تحويل العملات الأجنبية من قبل الشركات الحكومية.
وتُعقّد هذه السياسات بشكل كبير مهمة تتبع حجم التدخلات الفعلية في السوق وتقييم مدى تأثيرها الحقيقي، وهو ما تعدّه واشنطن مصدر قلق جوهري. وترى الإدارة الأميركية أن هذا الغموض المتعمد في السياسة النقدية يمثل تهديداً للاستقرار الاقتصادي العالمي ويستدعي أعلى درجات الحذر، لا سيما في ظل ارتفاع فائض الصين التجاري واستمرار الفجوة في العلاقة الاقتصادية الثنائية.
ويُنظر إلى هذا النهج غير الشفاف بوصفه مبرراً قوياً لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة مستقبلاً، في حال لم تُبدِ الصين تحسناً ملموساً في مستوى الشفافية وتعديلاً في ممارساتها النقدية. وفي حال قررت واشنطن إعادة تصنيف الصين متلاعباً بالعملة – كما حدث في أغسطس (آب) 2019 خلال الولاية الأولى للرئيس ترمب – فإن من المرجّح أن تعود التوترات التجارية إلى الواجهة، خصوصاً في ظل احتدام المنافسة العالمية على المعادن الاستراتيجية والسيطرة على سلاسل التوريد.
ضرورة الإصلاح والتنسيق الدولي
رغم أن التلاعب بالعملة قد يوفر مكاسب قصيرة الأجل للدولة التي تمارسه، فإن آثاره السلبية على النظام الاقتصادي العالمي تجعله سلوكاً خطيراً وغير قابل للاستدامة. فمثل هذه السياسات تُفضي غالباً إلى تصعيد التوترات التجارية، واندلاع حروب اقتصادية، وتقويض الاستقرار المالي؛ ما يفرض الحاجة الماسّة إلى تعزيز الشفافية وتكثيف التنسيق الدولي لضمان بيئة تنافسية عادلة واستقرار اقتصادي شامل.
ومع دخول سياسة «أميركا أولاً» مرحلة أكثر تشدداً في ولاية ترمب الثانية، تتجه الأنظار مجدداً نحو الصين، التي لا تزال، رغم التحذيرات المتكررة، تملك وتستخدم أحد أقوى أدواتها الاقتصادية غير التقليدية: التحكم في سعر صرف الرنمينبي؛ ما يجعلها في قلب الجدل حول العدالة التجارية.