ما وراء تعديل قانون السرّية المصرفية؟
(الجمهورية)-12/05/2025
*د. فؤاد زمكحل
جرى أخيراً في مجلس النواب، تعديل قانون السّرية المصرفية الذي أُقرّ منذ العام 1956، أي منذ 70 عاماً تقريباً، كما جرى أيضاً تعديل قانون النقد والتسليف الذي أُقرّ منذ العام 1963. فمَن وراء هذه التعديلات؟ ولماذا حصلت في هذا التوقيت؟
لا شك في أنّ هذه التعديلات قد حدثت جرّاء بعض الضغوط الدولية الكثيفة، من البلدان العظمى، الصناديق التمويلية، والبلدان المانحة، على لبنان، لأسباب مالية ونقدية، لكن أيضاً سياسية وجيوسياسية.
من الواضح، أنّ هذه الضغوط قد تُرجِمت عملياً من أجل تسريع الإصلاحات المرجوّة في لبنان منذ عقود، وكي لا يتكرّر التاريخ عن التمويلات السابقة التي حصلت في مؤتمرات باريس (1 و2 و3) والتي هُدر وسُرق ونُهب جزء كبير منها.
من جهة أخرى، ليس سرّاً، أنّه على رغم من استقطاب بعض الإستثمارات الشفّافة والمنتجة في لبنان، كنّا نستقطب أيضاً جزءاً من الفساد الإقليمي والدولي، من هنا قرّرت البلدان العظمى والمنظمات الدولية أن تضع حدّاً لملاذاتنا الضريبية، وقد ضغطت لتعديل قانوني السرّية المصرفية والنقد والتسليف.
نذكّر، بأنّ الإمتثال المالي والمتطلّبات النقدية الدولية وأيضاً الحَوكمة والشفافية، قد تغيّرت كلياً، فجُمّد قطاعنا المصرفي لخمس سنوات، لكن في هذا الوقت تغيّرت كل القوانين والمتطلّبات الدولية، لمكافحة الفساد وتبييض الأموال وتمويل الإرهاب في العالم، وقد أصبحت أكثر حذراً وصرامة، بعدما تضاعفت الجرائم المالية، نظراً إلى التطوّر التكنولوجي والذكاء الإصطناعي، والتدقيق الإلكتروني وكل وسائل المراقبة الدقيقة.
والجدير ذكره، أنّ القطاع المصرفي الجديد لا يُشبه القطاع المصرفي في الماضي، والمتطلّبات حيال لبنان، وتنفيذ الإصلاحات لا تُشبه المتطلّبات والتنفيذ في الماضي.
الجدير ذكره أيضاً، أنّه لما كان لبنان ملاذاً ضرائبياً في ظل قانوني السرّية المصرفية والنقد والتسليف، كان هدفه الأساسي جذب الإستثمارات، ودعم الحركة التجارية، وقد استفاد لبنان من هذه الفورة المالية. لكن من جهة أخرى، إنّ هذه التغطية المالية كانت سيفاً ذي حدَين، فإستقطبت أيضاً أموال الفساد والتبييض والإرهاب من دون رقابة.
إنّ تعديل هذَين القانونَين يُغيّر كل المعايير والاستراتيجيات والأهداف للمستقبل، لكن أيضاً للماضي بمفعول رجعي عشر سنوات. علماً أنّ كل السجلّات المالية والنقدية تبقى ليس أكثر من خمس سنوات بحسب القوانين.
في السياق عينه، بدأنا نفهم أكثر فأكثر ونقتنع، لماذا كانت أزمتنا المالية والنقدية، أزمة متعمّدة، من جهات عدة، ولأهداف عدة، ولا شك في أنّه داخلياً، كانت هناك حسابات سياسية، لكن إقليمية ودولية أيضاً، إذ كانت الأهداف إنهاء القطاع المصرفي القديم وطَي صفحة ملاذنا الضريبي. لم ولن ننسى أنّ حجم قطاعنا المصرفي كان قد تعدّى في الماضي أربعة أضعاف الناتج المحلي الذي كان يُوازي ما يفوق الـ50 مليار دولار، فيما الودائع المصرفية كانت قد تخطّت الـ200 مليار.
من جهة أخرى، لا شك في أنّ أعداء لبنان كان أيضاً لديهم أهداف عدّة لطعن قطاعنا المصرفي، الذي كان قد بدأ بالنمو في المنطقة. فالأهداف كانت عديدة، والجلّادون كانوا كثراً، لكنّ جسمنا كان «لبّيساً»، أيضاً.
لا شك في أنّ المتطلّبات الدولية اليوم هي إعادة بناء إقتصادنا اللبناني على أسس شفّافة تلحق بالمتطلبات الدولية، لكنّ الشيطان يكمُن في التفاصيل، ومن المهمّ اليوم ليس تعديل القوانين لكن تطبيقها وملاحقتها بدقّة وحذر، ونتمنى أن يكون التطبيق لمصلحتنا الدولية وليس لمصالح شخصية وتصفية حسابات محلية، إقليمية ودولية.
طُوِيَت اليوم صفحة السرّية المصرفية، وفُتِحَت صفحة جديدة علينا أن نكتبها جميعاً يداً بيد، لتطبيق كل متطلّبات الإمتثال المالي الدولي. فنحن اليوم على مفترق طرق، فإمّا يلحق لبنان واللبنانيّون بكل المعايير الدولية والشفّافة، وإمّا سنذهب من اللائحة الرمادية إلى اللائحة السوداء ولن يُستثمر سنت واحد في لبنان، ونبقى إقتصاداً صغيراً جداً لن يتجاوز الـ20 مليار دولار مع قطاع مصرفي «زومبي» تحت المراقبة الدولية، من إنهيار إلى آخر. ففي جو من الإيجابية والتفاؤل بحسب ما نحلم، ننتظر أن يعود لبنان لؤلؤة الشرق ومنصّة دولية وأرض السلام المبنيّة في جذوره.