(البيان)-15/05/2025
أصبحت استراتيجية ترامب التفاوضية واضحة، إذ يعمد باستمرار إلى فرض رسوم جمركية مرتفعة، ثم يتراجع عنها بمجرد مواجهة قراراته بانتقادات سياسية حادة أو اضطرابات في الأسواق المالية.
وفي أحدث فصول هذه المناورة، التي باتت تعرف بـ«استراتيجية تاكو» (أو تراجع ترامب الدائم)، أعلن الرئيس الأمريكي خفض الرسوم الجمركية على البضائع الصينية من 145 % إلى 30 % فقط لمدة ثلاثة أشهر، منهياً بذلك ما كان يشبه حصاراً اقتصادياً شاملاً، طال معظم المنتجات الصينية، باستثناء قطاعات حيوية كالإلكترونيات، التي سبق أن حصلت على إعفاءات استثنائية.
ولم تتأخر بكين في الرد بالمثل، حيث أعلنت خفض رسومها الجمركية المضادة من 125 % إلى 10 %، وقد استقبلت الأسواق المالية العالمية الخبر بحماس بالغ، مسجلة قفزات واضحة لمؤشراتها الرئيسية.
صحيح أن رسوماً جمركية بنسبة 30 % لا تزال مرتفعة، كما أن مهلة الـ90 يوماً ليست دائمة، إلا أن التوقعات الآن تشير إلى أن ترامب سيلجأ إلى خفض هذه الرسوم أيضاً إذا ما تسببت في إرباك الاقتصاد الأمريكي، فما الذي قدمته الإدارة الأمريكية للمستثمرين ليتوقعوا غير ذلك؟
يُولع المراقبون لسياسات ترامب بالتذكير بأن الرئيس ظل يتحدث عن الحمائية التجارية منذ 40 عاماً، غير أن الأقوال شيء والأفعال شيء آخر، والحكم على الرجل يكون بأفعاله لا بأقواله. وميل ترامب إلى التراجع يعد بلا شك نبأ ساراً، إلا أن الحرب التجارية لم تنته بعد، ومن المهم توضيح المخاطر المتبقية.
الأمر الأكثر وضوحاً هو أننا نستطيع رصد تصرفات ترامب، لكننا لا نستطيع قراءة أفكاره، ورغم أن الأمر يبدو أقل احتمالاً مع مرور الوقت، فقد تكون هناك مواقف لن يتزحزح عنها حتى تحت الضغط.
وقال أندرو بيشوب، رئيس أبحاث السياسات في مؤسسة سيجنوم غلوبال أدفايزرز، أن ترامب يتبنى نمطاً تصاعدياً يتمثل في «خطوتين للأمام، ثم خطوة للخلف»، ففي 20 يناير اقترح ترامب فرض رسوم على كندا والمكسيك والصين دون أن يتخذ أي إجراء فعلي، وفي فبراير عاد لتهديد هذه الدول، ووقع أمراً تنفيذياً، لكنه لم ينفذه، أما في مارس فقد أعلن ووقع ونفذ رسوماً على كندا والمكسيك قبل أن يتراجع فوراً. وفي «يوم التحرير» أعلن ووقع ونفذ رسوماً مرتفعة على العالم، ثم احتاج إلى شهر كامل للتراجع عنها، مما يظهر نمطاً من التقدم التدريجي مع تراجعات متكررة.
وحسب استراتيجية «تاكو» فإن ترامب يبحث عن نقطة توازن تحقق تغييراً ملموساً في سلوك الدول الأخرى دون إحداث ضرر كبير للمستهلكين أو الأسواق الأمريكية، ونظراً لعدم وجود مثل هذه النقطة، فإن الوضع النهائي سيكون نظاماً تعريفياً معتدلاً نسبياً، لكن حتى أشد المؤمنين باستراتيجية «تاكو» يُقرون بإمكانية حدوث سيناريوهات أخرى، رغم ضآلة احتمالها، والسبب أن ترامب ليس من السهل التنبؤ بتحركاته.
عموماً تتسم المرحلة الراهنة بارتفاع حاد في الرسوم الجمركية إلى مستويات كفيلة بإحداث تأثير جوهري على أرباح الشركات، لكن أسواق الأسهم تتجاهل هذا الواقع، ولا تعكسه في تسعيراتها حتى الآن.
وفي هذا السياق، أشار جوزيف وانغ، المحلل المستقل، إلى أنه «من الناحية النظرية يمكن التخفيف من وطأة التعريفات عبر تعزيز قيمة العملة والتحول إلى دول غير خاضعة للرسوم الجمركية، إلا أن الدولار يشهد تراجعاً ملحوظاً، كما أن فرض حد أدنى عالمي للتعريفات يحد من إمكانات المبادلة، إذ يطال تأثيره جميع الواردات بصرف النظر عن بلد المنشأ»، مضيفاً أن «التقديرات الأولية المستندة إلى أحجام الواردات السلعية الأخيرة البالغة 3 تريليونات دولار تشير إلى أن الزيادة التراكمية في إيرادات التعريفات قد تتجاوز 200 مليار دولار بسهولة»، ومن شأن زيادة ضريبية بقيمة 200 مليار دولار أن تقتطع ما بين 4 % إلى 5 % من أرباح الشركات الأمريكية، رغم أن تقديرات الأرباح والتقييمات السوقية لا تزال عند مستويات مرتفعة، ما يؤكد أن هناك فجوة واضحة بين الواقع وتوقعات السوق.
على صعيد آخر، قد يدفع التقلب الحاد في السياسات الأمريكية وأسعار الأصول المستثمرين الأجانب إلى إعادة النظر في استراتيجياتهم بشكل جذري، حتى بعد التراجع الأخير عن السياسات الحمائية، فالمستثمرون المؤسسيون العالميون الخاضعون للوائح تنظيمية صارمة، كصناديق التقاعد وشركات التأمين، سيجدون أنفسهم مضطرين – بحكم قواعد المخاطر المبنية على مقاييس التقلبات التاريخية – إلى تقليص تعرضهم للدولار أو تعزيز تحوطاتهم، وهو ما يسهم في تفسير الضعف المستمر لمؤشر الدولار الأمريكي.
كما يتجه عدد متزايد من المستثمرين نحو التنويع الجغرافي خارج الولايات المتحدة، لا سيما في ظل المستويات المرتفعة لأسعار الأصول الأمريكية. وفي هذا الإطار يؤكد جيم كارون، كبير مسؤولي الاستثمار لمجموعة حلول المحافظ في مؤسسة مورغان ستانلي لإدارة الاستثمارات، توجه فريقه نحو التنويع الإقليمي، حيث تمثل الأسهم الأوروبية أعلى مراكزهم الاستثمارية من حيث الثقة.
من جهة أخرى، قد لا تؤثر التهدئة المؤقتة مع الصين على حقيقة استمرار مخاطر التضخم، ما يعني أن استراتيجية التحوط التقليدية للأسهم الأمريكية المتقلبة باستخدام سندات الخزانة طويلة الأجل قد تفقد فعاليتها.
ويقول جيم كارون: «عندما ننظر للأمر من زاوية إدارة المحافظ الاستثمارية نجد أن التضخم المرتفع يعني أن السندات طويلة الأجل قد لا توفر الحماية كما كانت تفعل في الماضي، لذا نفضل تقليص الاستثمار في السندات طويلة الأجل، والتركيز على سندات قصيرة الأجل عالية الجودة، لأنه في حال حدوث تطورات سلبية ستتوفر آلية خفض أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي.
وفي المقابل حتى الأخبار الجيدة قد تزيد التضخم، مما يضر بأداء السندات طويلة الأجل، والخلاصة: علينا أن نفهم أن السندات طويلة الأجل لم تعد توفر الحماية، التي اعتدنا عليها».
وتشير التحليلات المعمقة إلى أن التذبذب المستمر في صنع السياسات الأمريكية قد يؤدي إلى آثار اقتصادية هيكلية عميقة وطويلة الأمد، إذ يرى صناع القرار ورؤساء الشركات أن تراجعات ترامب المتكررة لا توفر ضمانات حقيقية. وفي هذا السياق، يطرح أندرو بيشوب تشبيهاً بليغاً: «الأمر أشبه بلعبة الروليت الروسية – صحيح أن ترامب يتراجع في 9 حالات من أصل عشر، لكن الخطر يكمن في تلك المرة العاشرة، التي قد تدمر فيها القرارات الخطأ اقتصاداً بأكمله أو تطيح بشركة عملاقة».
إن هذا الواقع يفرض على المستثمرين والحكومات والشركات تبني استراتيجيات دفاعية مكلفة عند التعامل مع واشنطن، مما يولّد احتكاكات اقتصادية متزايدة تعرقل النمو وتضعف الكفاءة، وتتجلى هذه الإشكالية بوضوح في اضطراب سلاسل الإمداد العالمية، حيث تؤكد غريس زويمر، خبيرة الاقتصاد في مؤسسة أوكسفورد إيكونوميكس، أن «فترة التهدئة المؤقتة لثلاثة أشهر ستدفع المستوردين على الأرجح إلى جولة جديدة من الشراء الاستباقي تحسباً لعودة الرسوم المرتفعة»، مضيفة أن «تعافي الواردات من الصين قد يخفف مؤقتاً من مخاطر انقطاع سلاسل التوريد، لكنه سيبقي مستويات الغموض مرتفعة حول السياسات التعريفية المستقبلية، مما قد يفاقم الاضطرابات لاحقاً حين يتوقع المستوردون تدخلاً حكومياً جديداً لإنقاذ الموقف».
أما على صعيد السياسة النقدية، فإن التهدئة الجزئية مع بكين لا تمنح مجلس الاحتياطي الفيدرالي الضوء الأخضر لخفض أسعار الفائدة، إذ تشير المعطيات الراهنة إلى قوة سوق العمل، واستمرار التضخم فوق المستوى المستهدف، فضلاً عن الضبابية الكثيفة المحيطة بمستقبل التعريفات الجمركية، وبينما نجح ترامب في إبعاد السيناريو الكارثي مؤقتاً فإن الفيدرالي الأمريكي يبقى بحاجة إلى رؤية أوضح بكثير قبل اتخاذ قرارات مصيرية.
وقد خرج عدد من كبار المحللين الاقتصاديين في وول ستريت، ليؤكدوا توقعاتهم بأن الفيدرالي لن يقدم على خفض الفائدة خلال العام الجاري، وهو رأي نتفق هنا معه.