السياسة النقدية في العراق وفرص الإستقرار النقدي والتحوُّل الرقمي
السياسة النقدية في العراق وفرص الإستقرار النقدي والتحوُّل الرقمي
سمير النصيري
مستشار إقتصادي ومصرفي
تُواجه السياسة النقدية للبنك المركزي العراقي تحدّيات كبيرة لأسباب عديدة مرتبطة بتأثيرات وإنعكاسات الواقع الإقتصادي، الذي يعيشه العراق منذ العام 2003 وتأثيرات المتغيّرات في الإقتصاد العالمي، ولا يزال مستمراً.
وخلال السنوات السابقة ومنذ صدور قانون البنك المركزي رقم 56 لسنة 2004 بذل البنك المركزي جهوداً كبيرة في تثبيت السياسات والبرامج وتنفيذ الإجراءات بهدف تجاوز تللك التحدّيات وتحويلها الى فرص لتحقيق الإستقرار النقدي، وخصوصاً أثناء الأزمات الإقتصادية والمالية والأمنية التي عانى منها العراق لعدم إستقرار أسعار النفط، وهو المورد الرئيسي للموازنة العامة، وعدم وضوح السياسة المالية، وضعف التنسيق بين السياستين المالية والنقدية وعدم صدور وإقرار الموازنات العامة لأعوام 2014 و2020 و2022 وتفشّي جائحة كورونا والصراعات في إقليمنا الجغرافي، والحرب على الإرهاب، ولا يزال البنك المركزي يبذل جهوداً واضحة في مسيرته على هذا الطريق.
ولغرض مناقشة هذه التحدّيات وفرص تجاوزها، قمتُ بمراجعة إجراءات البنك المركزي منذ صدور قانونه في العام 2004، وربط كل ذلك بالواقع الإقتصادي من خلال المعايشة والمتابعة والمراقبة والتحليل تُوصلنا الى دراسة تحليلية متخصّصة في هذا الموضوع الحيوي في الظرف الراهن.
أهداف السياسة النقدية
تتمثل أهداف السياسة النقدية بتحقيق النمو والإستقرار الإقتصادي وخفض معدّلات البطالة، وإستقرار أسعار السلع والخدمات، وإستقرار أسعار الصرف وتحسين وضع ميزان المدفوعات، وتحقيق هذه الأهداف من خلال إتباع أدوات السياسة النقدية المباشرة وغير المباشرة، ويُمكن تحديد أهم هذه الأهداف كالتالي:
أولاً: الحدُّ من التضخُّم.
ثانياً: المحافظة على توازن السوق النقدية.
ثالثاً: الإحتفاظ وإدارة الإحتياطات الأجنبية (النقد الأجنبي والذهب).
ويُمكن تحديد أهم ما تم تحقيقه من أدوات السياسة النقدية خلال السنوات الماضية كالتالي:
أولاً: الإستقرار النسبي لمعدّلات سعر الصرف .
ثانياً: السياسة النقدية المتشدّدة.
ثالثاً: الحد من الظاهرة التضخُّمية .
رابعاً: السيطرة على مناسيب السيولة وإدارتها.
خامساً: تحفيز المصارف للتوجُّه نحو السوق.
السياسة النقدية والإستقرار النقدي
في ضوء المتغيّرات الإقتصادية بعد العام 2003 برزت الحاجة للإصلاح الجذري للبنك المركزي، وصدر القانون الجديد الذي أكد إستقلاليته وتثبيت دوره الأساسي في حماية موارد البلاد.
وقد تم تحديد مهامه، وهي مواجهة غسل الأموال، ومحاولات تمويل الإرهاب التي تقف في مقدّمة التحدّيات التي تواجه البنك المركزي العراقي. كما أن الحرص على سلامة العمليات النقدية من خلال نافذة بيع العملة الأجنبية هو الآخر أمر أساسي في أداء البنك، وتثبيت مبادئ وقواعد التعامل المشروع في جوّ سليم من الرقابة والإشراف.
كذلك المحافظة على إستقلالية البنك، وتمكينه من أداء مهمته من غير تدخُّل حكومي، وجعله مؤسسة فعّالة وضامنة لمصالح المجتمع ككل، إضافة إلى سيطرته على إستقرار سعر الصرف وإدارة عرض النقد .
ويُمارس البنك المركزي العراقي وظائف متعدّدة الأبعاد، فهو معني بالإستقرار المالي وإدارة نظام المدفوعات، وإدارة الإحتياطات الأجنبية وترخيص ومراقبة المصارف والمؤسسات المالية، ويتولّى وضع الضوابط الوقائية، إضافة إلى مهام أخرى تتعلق بالإصدار النقدي ونشر البيانات والمؤشرات والتنبوءات الإقتصادية.
ومن المهام الأساسية التي يقوم بها البنك المركزي، إدارة السياسة النقدية التي تهدف إلى تحفيز الإقتصاد الوطني والإستخدام الكامل، وتوازن ميزان المدفوعات وتحقيق الإستقرار النقدي.
إن تحقيق أهداف السياسة النقدية يتوقف بشكل رئيسي على إستقلالية البنك المركزي. كما أن الإستقرار النقدي يُمثل نقطة الإنطلاق نحو الإستقرار الإقتصادي، ويتطلّب ذلك إستقراراً نقدياً يتمثل في قدرة السلطة النقدية على تحقيق إستقرار الأسعار عند مستويات مستهدفة.
تحدّيات السياسة النقدية
تواجه السياسة النقدية تحدّيات عديدة أهمها: أولاً: الإقتصاد الريعي، ثانياً: السياسة المالية، ثالثاً: تمويل عجز الموازنات العامة، رابعاً: ظاهرة التعامل بالنقد، خامساً: ضعف العمق المالي والرافعات المالية، سادساً: إنخفاض الإستثمار المحلي وزيادة الإدخار الأجنبي، سابعاً: ضعف التنسيق بين السياسة المالية والسياسة النقدية.
التحوُّل الرقمي
كانت النتائج المتحققة للتحوُّل الرقمي خلال عامي 2023 و2024 قد سجلت طفرة نوعية بحجم التعاملات في عمليات الدفع الإلكتروني، وإستخدام التقنيات المصرفية الحديثة، حيث إرتفعت نسبة التحوُّل الرقمي والدفع الإلكتروني إلى 48.5 % بالمقارنة مع 20 % خلال السنوات الماضية، وهو مؤشر يؤكد نجاح الخطط والإجراءات المعتمدة للوصول الى تحوُّل كبير بجهد وطني متميّز للتحوُّل الرقمي والدفع الإلكتروني. كما أن هذا الجهد المشترك لكوادر البنك المركزي والحكومة والمصارف وشركات الدفع الإلكتروني، قد ساهم بشكل واضح في إمتلاك بنية تحتية متقدّمة لتنفيذ وإستيعاب أدوات الدفع الإلكتروني والخدمات المالية المتعدّدة.
لا شك في أن الإصلاح المصرفي دخل الآن في مرحلة التحوُّل للمصارف الرقمية، والتي يتولى البنك المركزي حالياً فحص وتدقيق في حدود 70 طلباً لإجازة مصارف رقمية جديدة، وهي تشكل إنطلاقة حقيقية وواعدة للتطوير المصرفي التقني في العراق، لسد الفجوة التقنية مع دول العالم في هذا المجال، مما يسهل تقديم الخدمات المصرفية الذكية، ويُقلّل من فرص التحايل والفساد، ويُوفر بيانات مهمة عن طبيعة المعاملات والرقابة عليها والإمتثال.
لذلك، فإن المصارف الرقمية هي مرحلة جديدة للتحوُّل الرقمي والإصلاح المصرفي، حيث نأمل في قيام البنك المركزي قريباً في بدء الخطوة الأولى بإجازة المصارف الرقمية، التي تُظهر نتائج الفحص والتدقيق والدراسة أنها ملتزمة بالضوابط والشروط النافذة.
وفي هذا السياق، ختاماً، وتأكيداً لإستراتيجية البنك المركزي في التحوُّل الرقمي للسنتين المقبلتين، فإن المستقبل للتحوُّل الرقمي في العراق يبدأ الآن، وإن المرحلة الراهنة تشهد تطوراً كبيراً في نظام الدفع الإلكتروني، من خلال زيادة عدد الصرّافات الآلية، والتي تجاوزت الـ 4 آلاف صرّاف، وعدد البطاقات الالكترونية الصادرة والتي باتت أكثر من 17 مليون بطاقة، وعدد أجهزة pos في حدود 63000 جهاز، فيما إرتفع أيضاً عدد المَحافظ الإئتمانية، وزادت نسبة الشمول المالي إلى 40 % بعدما كانت 20 % قبل سنتين.