السرية المصرفية في لبنان بين الهواجس والحقائق
(الجمهورية)-16/04/2025
على طاولة مجلس الوزراء، تعود «السرية المصرفية» لتُثير الجدل، لا بوصفها قاعدة مالية فريدة بل كأداة كانت وما زالت تُستعمل، في بعض جوانبها، حصناً للفاسدين. فما يُعرَض اليوم من تعديل ليس نسفاً لقانون 1956، بل محاولة لتكييفه مع معايير الشفافية الدولية، بعدما باتت السرية المطلقة غطاءً للتهرب والإفلات. فهل تصل الحكومة إلى برّ الأمان في هندستها لمشروع القانون وتضع لبنان على سكة إثبات نفسه كموقع آمن للاستثمار والتمويل أمام المجتمع الدولي ويصبح على سكة الخروج من اللائحة الرمادية لمنظمة العمل المالي (FATF)؟
1 – رفع الرسة المصرفية وتعديل القانون الذي إعتمده لبنان منذ العام 1956 من شأنه أن يؤثر سلباً على الإقتصاد ويعيق الإستثمار وتوافد رؤوس الأموال.
هذا الكلام بعيد عن المنطق والحقيقية ويستعمل للتضليل وحماية المرتكبين إذ أنّ السرية المصرفية، بعد أن كانت مطلقة وشاملة ولا تُخرَق إلّا بحالات جدّ نادرة ومستعصية لحَظها قانون السرية الصادر سنة 1956 أو القوانين الخاصة اللاحقة، قد أصبحت بحُكم الساقطة بالنسبة إلى الأشخاص غير المُقيمين بعد تطبيق المودل 2 (Model 2 IGA) من قانون الفاتكا الأميركي عام 2010 بالنسبة إلى الأشخاص المشمولين به (US Persons)، كما وبعد تفعيل التعاون الدولي لمحاربة التهرّب الضريبي وتوقيع لبنان على المعاهدة المتعدّدة الأطراف للتعاون التقني في المجال الضريبي والمعروفة بإسم (the Convention» MAC») بموجب القانون رقم 55 تاريخ 27/10/2016، الذي دخل حيّز التطبيق في 2007 مع إرسال لبنان إلى بالسلطات الضريبية المختصة غب الطلب (upon request) أو تلقائياً (automatically) المعلومات المالية والمصرفية العائدة إلى رعاياهم والمقيمين ضريبياً في نطاقهم المكاني.
وقد تبعه القانون رقم 306 تاريخ 28/10/2022 الذي عدّل أحكام قانون السرية المصرفية بشكلٍ جزري لجهة تعزيز إجراءات ووسائل مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تعزيز إجراءات ووسائل مكافحة الفساد، وتعزيز الإمتثال الضريبي والحدّ من التهرّب بما يتوافق مع المعايير الدولية. وقد شكل هذا القانون أحد أولويات صندوق النقد الدولي من أجل التوصّل إلى اتفاق على برنامج متكامل مع لبنان.
هذا، وبخلاف ما يُشاع، فإنّ إقرار قانون تعديل السرية المصرفية، على النحو المعروض والمطلوب من المجتمع الدولي، من شأنه أن يُعيد الثقة والمصداقية للدولة اللبنانية ويُخرجها (بعد قيامها بالتدابير الواجبة) من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) ويُعيد إطلاق إقتصادها ويُسهّل جذب الرساميل والإستثمارات بفعل ارتياح وتعاون المؤسسات المالية والمصرفية الخارجية كما والرسمية على كَون لبنان بلد آمن وأمين وليس مرتعاً للمتهرِّبين والمهرِّبين والمخالفين.
نتيجةً لما تقدّم، لم تَعُد السرية المصرفية شيئاً مفيداً لجعل لبنان بلداً أكثر جاذبية. ومستقبلاً، سيعتمد جذب رؤوس الأموال على فرص النمو لا على السرية المصرفية و/أو المعدّلات الضريبية المنخفضة.
2 – لماذا يتعيّن على لبنان التنازل عن السرية المصرفية وما زالت بلاد أخرى كسويسرا ولوكسمبورغ تعتمدها وقد يلجأ إليها بالتالي المتمّولون ؟
هذا أيضاً كلام تضليلي، أو على الأقل مجانب للحقيقة، لأنّ كل من سويسرا ولوكسمبورغ قد تنازلتا عن نظام السرية الذي كان قائماً قبل الألفية الثالثة. بالفعل، فإنّه من الوهم الإعتقاد بأنّ السرية المصرفية كما هي قائمة ومطبّقة في لبنان راهناً، ما زالت معتمدة في بلدان أخرى كسويسرا ولوكسمبورغ.
ففي سويسرا مثلاً، دخلت معركة مواجهة المجتمع الدولي ومحاولة الإبقاء على السرية المصرفية مسار عسير بين عامَي 2001 و2009 إلّا أنّها استسلمت وقرّرت التقيّد بالإلتزامات الدولية لجهة تبادل المعلومات الضريبية والكشف عن الحسابات غير المقيمة، ووضع ضوابط صارمة على نظامها المصرفي للإنتقال من السرية المصرفية المطلقة إلى السرية المهنية المحكمة.
وهذا ما نتوخّاه ونأمل به بالنسبة إلى لبنان؛ كَون السرية المهنية تمنع الإفشاء عن المعلومات إلى أي شخص وإن كان من المقرّبين غير المُجاز لهم صراحةً وخطياً من قِبل صاحب الحساب وبإستثناء السلطات المختصة التي يمكنها الحصول على المعلومات في سياق قيامها بمهامها إمّا القضائية أو الإدارية (تدقيق وكشف).
أمّا لوكسمبورغ، فقد تخلّت تدريجاً عن السرية المصرفية بسبب الضغط الدولي عليه عن طريق اقتطاعات ضريبية لدى المنبع متزايدة لمصلحة دول الإقامة، ممّا حذى بأصحاب الحسابات إلى التخلي الطَوعي عن السرية المصرفية حتى زواله نهائياً سنة 2015.
3 – رفع السرية المصرفية أو التنازل عن نظامها قد يُعيق الشمول المالي ويُحفّز على الإقتصاد النقدي غير الرسمي ممّا يشكل أيضاً عقبة رئيسة للإلتزام الضريبي ورفع إيرادات الدولة.
بعكس هذه الفرضية، فإنّه من الواضح والمسلّم به بأنّ قانون السرية المصرفية جعل من الصعب فرض وتحصيل الضرائب على الدخل.
بالفعل، وعلى رغم من الهدف الجدير بالثناء الذي برّر في حينه إقرار قانون السرية المصرفية الصادر في 3/9/1956 ولاسيما لجهة جذب الإستثمارات وتحقيق النمو الإقتصادي وتشجيع تدفّق رؤوس الأموال دعماً لميزان المدفوعات وتثبيت العملة الوطنية، إلّا أنّ هذا القانون قدّ سهل بالمقابل التهرّب الضريبي غير المشروع عن طريق إخفاء وعدم التصريح عن الأصول والأموال المنقولة المودعة لدى المصارف اللبنانية أو من خلالها ولاسيما لجهتَي الحسابات المصرفية الخاصة وإيرادات رؤوس الأموال المنقولة، فضلاً عن التركات والذمم الإرثية؛ ممّا ألحق، والحال ما تقدّم، ضرراً بالمردود الضريبي والإلتزام الطوعي.
وعلى رغم من أنّ السنوات الأخيرة شهدت زيادة ملحوظة في أعداد مقدّمي تصاريح ضريبة الدخل، ثمة أدلة على أنّ جزء ضئيل من الدخل الحقيقي هو ما يُفصَح عنه. إذ يُمكن أن يؤدّي التحصيل الكامل لضريبة الدخل إلى زيادة بنسبة 2-4% من الناتج المحلي الإجمالي.
هذا وقد شكلت أيضاً السرية المصرفية على مرّ السنين عقبة رئيسة تحول دون تحصيل الضرائب على الأرباح الرأسمالية التي يُحققها المقيمون على الأراضي اللبنانية سواء في الداخل و/أو في الخارج، الأمر الذي أدّى إلى فقدان مصدر مهم آخر من مصادر الإيرادات، وذلك فضلاً عن التأثير المباشر للسرية المصرفية على انخفاض الإيرادات المُحصّلة من رسوم الإِنتقال، إذ تحظر السرية المصرفية المراقبة الفعّالة على الحسابات المصرفية التي تنتقل إلى الورثة لا سيما من خلال الحسابات المشتركة (joint accounts)، ممّا يخلّ بأحد أهم العوامل الرادعة التي تحول دون دفع رسوم الإِنتقال كما تُشكل الهبات المقنعة أيضاً ثغرة تُستخدم على نطاق واسع للتهرّب الضريبي، التي تُسهّلها المعاملات المصرفية.
بالنتيجة، فإنّ تعديل قانون السرية المصرفية كما هو مطروح يُعتبَر أساساً لمواكبة المسار العالمي المناهض للممارسات المالية غير المشروعة (Illicit Financial Flows) ومكافحة الإقتصاد غير الشرعي.
وأخيراً وليس آخراً، فإنّ قانون السرية المصرفية على النحو الذي كان معمولاً به، على رغم من حسناته وأفضاله، قد تسبّب من جهة أخرى في إضعاف المواطنية الضريبية وساهم في تعزيز ثقافة الفساد والإفلات من العقاب، إذ شجّع على التهرّب الضريبي وترسيخ انعدام المساواة في توزيع الدخل والثروة كما وأخفى أفعال الفاسدين والمتعدّين على المال العام، وكذلك نسف التحقيقات في العديد من القضايا والجرائم المالية وأعاق التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان والمصارف، وأيضاً سمح في تهريب أموال النافذين إلى الخارج.
4 – رفع السرية المصرفية أو التنازل عن نظامها قد يُتيح لبعض الجهات الرسمية أو السياسية إبتزاز المواطنين والخصوم السياسيّين.
أكّد القانون رقم 306 تاريخ تاريخ 28/10/2022 (تعديل بعض مواد القانون الصادر بتاريخ 3/9/1956 المتعلق بسرية المصارف) من جهة أولى، في مادّته رقم 1 على إلزامية التقيّد بالسرية من قِبل الذين لهم حق الولوج إلى تلك المعلومات. بيد أنّ مُديري ومستخدمي المصارف المشار إليها في المادة الأولى من قانون السرية المصرفية، وكل مَن له اطلاع بحُكم صفته أو وظيفته بأية طريقة كانت على قيود الدفاتر والمعاملات والمراسلات المصرفية، يلتزمون بكتمان السر لمصلحة زبائن هذه المصارف ولا يجوز لهم إفشاء ما يعرفونه من أسماء الزبائن وأموالهم والأمور المتعلقة بهم لأي شخص، فرداً كان أم سلطة عامة إدارية أو عسكرية أو قضائية، إلّا إذا أذن لهم بذلك خطياً صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم أو إذا أعلن إفلاسه أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها أو وفقاً للاستثنائات المنصوص عليها في المادة السابعة الجديدة من هذا القانون ولاسيما السلطات القضائية ووزارة المالية.
هذا وقد شدّد المشرِّع، في القانون التعديلي الآنف الذكر، العقوبة في حال الإفشاء غير المسموح وربطها بعقوبة حبس إذ أنّ المادة 8 جديدة من قانون السرية المصرفية قد أضحت تنصّ بالنسبة إلى إفشاء المعلومات على ما حرفيّته: «كل مَن أفشى أو حاول إفشاء معلومات محمية بالسرية المصرفية خلافاً لأحكام هذا القانون يُعاقَب بالحبس من 3 أشهر حتى سنة، وبالغرامة من 150 ضعف الحدّ الأدنى للرواتب والأجور لغاية 300 ضعف الحدّ الأدنى للرواتب والأجور، ويُعاقَب الشروع بالجريمة بالعقوبة عينها. تُضاعف الغرامة في حال تكرار المخالفة».
كما أنّ قانون الإجراءات الضريبية، بالنسبة إلى مراقبي وموظفي وزارة المالية الذين قد يحصلون على المعلومات في طور القيام بمهامهم ويفشون عنها أو يستعملونها بشكل مخالف للقوانين والأصول، تُطبّق عليهم أحكام المادة 25 من قانون الإجراءات الضريبية رقم 44 تاريخ 11/1/2008 مع تعديلاته. وقد نصّت تلك المادة على ما حرفيّته: «(1) يلتزم العاملون لدى الإدارة الضريبية الحاليون أو السابقون بالسرية المهنية، في ما يتعلق بالمعلومات التي حصلوا عليها بصفتهم موظفين، ولا يمكن البَوح بهذه المعلومات إلّا للجهات التالية: ….(2) يلزم الموظفون التابعون للأشخاص المذكورين في الفقرات المبينة في البند الأول من هذه المادة، بعدم إفشاء أو استعمال المعلومات إلّا للغاية التي من أجلها حصلوا عليها. (3) يترتب على مخالفة السرية المهنية المنصوص عليها في هذه المادة مسؤولية إدارية ومدنية وجزائية وفقاً للقوانين المرعية الإجراء».
وأخيراً، من الجدير ذكره أيضاً أنّه وفي أواخر سنة 2019، توافقت الدولة اللبنانية مع المنتدى الدولي للشفافية على اعتماد خطة العمل المطلوبة من قِبل هذا الأخير بموضوع أمن وسلامة المعلومات المالية والمصرفية المحوّلة إليها بالنسبة إلى المقيمين ضريبياً على أرضها، والتي يقتضي حمايتها والإبقاء على سريّتها تجاه الغَير لعدم السماح بتعريض الأشخاص للخطر، وذلك تمهيداً لتمكينها من الحصول تلقائياً وسنوياً على المعلومات المالية عن المقيمين على أرضها وفق إتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات MCAA. وقد باتت هذه الآلية شبه جاهزة للتطبيق، إذ لا ينقصها سوى تفاصيل تقنية صغيرة مثل تجهيز Server بحاجة إلى تمويل لم يؤمَّن. وقد تساعد على تعميمها على كافة الدوائر والإدارات الضريبية لتأمين القدر عينه من الأمان والشفافية والحماية. وهذا ما من شأنه أن يُزيل ويُبطِل كل الذرائع لجهة إبقاء السرية.
5 – لماذا إثارة الموضوع مجدّداً اليوم وبهذا الزخم؟
من المستعجب، لا بل من المستغرب، أن يُثير موضوع تعديل الفقرتَين (ه) و(و) من القانون المتعلق بسرية المصارف تاريخ 1956 والمادة /150/ من قانون النقد والتسليف المعدّلة بموجب القانون رقم 306 تاريخ 28/10/2022، هذا الكمّ من ردود الفعل والتعليقات؛ مع العلم أنّ الموضوع ليس مسألة رفع أو عدم رفع السرية المصرفية في المطلق بل مجرّد تعديل تقني لتدبير سبق وكان أقرّه المجلس النيابي عام 2022 بموجب القانون رقم 306 لجهة عدم السماح للمصارف بأن تتذرّع بسر المهنة أو بسرية المصارف المنصوص عليها في القانون تجاه بعض السلطات والهيئات كالقضاء المختص وهيئة التحقيق الخاصة والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والإدارة الضريبية كما ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف والمؤسسة الوطنية لضمان الودائع.
إلّا أنّه وبالنسبة إلى المراجع الأربعة الأخيرة، ربط رفع السرية تحديد المعايير والضوابط التطبيقية المتعلقة بالفقرتَين (هـ) و(و) أعلاه بموجب مراسيم تُتَخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية. وهذا ما لم يُصار إلى تحقيقه لأكثر من سنتَين من الزمن، ممّا دفع صندوق النقد الدولي، وبهدف إزالة كل عائق أو معوّقات أمام تلك الجهات المختصة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي والقيام بالأعمال الرقابية عليه، إلى الطلب بتعديل تلك الفقرتَين كما والمادة /150/ من قانون النقد والتسليف للسماح لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف بالقيام بمهامهم على أكمل وجه وعدم تكرار تجربة التدقيق الجنائي لشركة ألفاريز آند مارشال (Alvarez & Marsal) السيئة الذكر.
كما جرى الطلب بتعديل الإستثناء الوارد في الفقرة (و) عينها والمتعلق بعدم الكشف عن إسم العميل أو صاحب الحساب في طَور قيام الجهات الرقابية بطلب معلومات محمية بالسرية المصرفية من دون تحديد حساب معيّن أو عميل معيّن، بما في ذلك إصدار طلب عام بإعطاء معلومات عن جميع الحسابات والعملاء.
بالتالي، فإنّ الموضوع المستجد لا يتعلّق برفع أو عدم رفع السرية المصرفية وتغيير النظام القائم، كَون هذا التعديل قد سبق وحصل عملياً على دفعات في سنوات 2010 و2016 (مع القانون رقم 55/2016) و2022 (مع القانون رقم 306/2022)، بل هو بالأحرى محاولة يائسة وبائسة للحؤول دون تمكين مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف من إجراء التدقيق في الحسابات والعمليات المصرفية والتحقق منها وفتح الملفات وكشف المخالفات والتجاوزات… ليس إلّا.