أمريكا.. الاستقرار المفقود وتحولات القوة العظمى
(البيان)-16/04/2025
عندما طرحت هذه الفكرة للمرة الأولى في أكتوبر الماضي أشرت إلى أن الأسواق الناشئة غالباً ما تتميز باقتصادات غير مؤكدة، وسياسات فاسدة، ومؤسسات ضعيفة للغاية، بحيث لا يمكنها إنفاذ المعايير الديمقراطية، والعنف، والاستقطاب الاجتماعي. لقد كانت الولايات المتحدة تتجه بسرعة في هذا الاتجاه منذ عام 2016، لأسباب نعرفها جيداً، على الرغم من أن أسعار الأصول ومعدلات الاقتراض لم تعكس ذلك بعد.
بدلاً من ذلك رأينا بشكل متكرر ارتفاع الأسهم والعملة الأمريكية خلال فترات الضغط السياسي والاقتصادي بين عامي 2016 و2024، وذلك بفضل وضع الدولار كونه ملاذاً آمناً.
ولا يبدو أن كل العوامل التي دعمت الشركات الأمريكية، من أسعار الفائدة المنخفضة إلى الهندسة المالية وصولاً إلى العولمة ذاتها، قد استنفدت تماماً، إذ بدت أسواق الأصول الأمريكية محصنة ضد فكرة سيناريو انهيار الدولار، الذي من شأنه أن يدفع العملة وأسعار الأصول نحو التراجع الحاد.
لقد أنهى ترامب أخيراً «الاستثنائية»، التي تمتعت بها أمريكا، فأسلوبه القيادي المتقلب – الذي يشبه سائقاً ينتزع عجلة القيادة لإجبار السائق المقابل على الانحراف – يعرض الآن عملة بلاده وقيمة الأسهم للخطر، وهو ما يحدث دوماً في الاقتصادات الأخرى «غير الاستثنائية»، التي تشهد هذا القدر من الاضطراب.
وقد أشار مارك روزنبرغ، مؤسس ورئيس قسم الأبحاث في شركة «جيوكوانت»، الأسبوع الماضي إلى أن «العلاقة السلبية بين المخاطر السياسية والدولار ومؤشر «إس آند بي 500» أصبحت تشبه ما نراه في الأسواق الناشئة».
وهذا التطور ليس مفاجئاً، رغم أن الكثيرين في مجتمعي الأعمال والاستثمار تصرفوا كما لو أنه كذلك، حيث ركز العديد من الرؤساء التنفيذيين على احتمالات خفض الضرائب وتخفيف القيود التنظيمية في فترة ترامب الثانية، متجاهلين حالة عدم الاستقرار الشاملة والتحول الجذري في النموذج الاقتصادي، الذي بشر به.
أما سلوك ترامب الشخصي فلم يختلف كثيراً عن قادة الأسواق الناشئة: فهل هناك ما هو أكثر تماثلاً مع هذه الأسواق من زعيم يحيط نفسه بمساعدين تم اختيارهم على أساس ولائهم المطلق؟ فكلما ارتكزت القيادة على الشخصية زاد تحكم شخص واحد في النتائج الاقتصادية، بقدرته على المنح والمنع والإفلات من الحساب، وكلما ضعفت المؤسسات ارتفعت احتمالية إفلات هذا الحاكم من العقاب.
وأضاف روزنبرغ أن انتخاب ترامب كان بمثابة نتاج توجهات مشابهة للأسواق الناشئة على مستوى الاستقرار الاجتماعي والمؤسسي الأمريكي، وهي توجهات تتنامى بوضوح منذ 2017.
رغم ذلك استغرق الأمر التهديد بحرب اقتصادية على الحلفاء والخصوم على حد سواء، بطرق تركت حتى صانعي السياسات التابعين لترامب يكافحون لمواكبتها، لتغيير تصورات المخاطر المترتبة على هذه التوجهات، وبأساليب أربكت حتى فريق ترامب نفسه، فبينما كان ممثل التجارة الأمريكي «جيميسون جرير» يدافع بحماس أمام الكونغرس عن فرض تعريفات جمركية كان ترامب يقرر منح عشرات الدول مهلة إعفاء تمتد لتسعين يوماً، وهو ما يطرح سؤالاً جوهرياً: هل ستؤخذ تصريحات أي مسؤول في إدارة ترامب على محمل الجد في أية مفاوضات مستقبلية؟
واللافت أن أسواق الأسهم تعاملت، حتى الأسبوع الماضي، وكأن ترامب يتحكم في زمام الفوضى التي أطلقها، فحين غرد بأنه «الوقت المثالي لشراء الأسهم»، قفزت المؤشرات استجابة لتلميحه، في نمط يحاكي سلوك الأسواق الناشئة تماماً، وهو ما يذكرنا بحادثة عام 2008 حين أدت تصريحات موجزة من بوتين ضد أحد أباطرة الفحم والصلب إلى تبخر 6 مليارات دولار من قيمة شركته في لحظات، وكذلك الحال في تركيا، حيث تتأرجح الليرة والأصول المالية صعوداً وهبوطاً مع كل خطاب لأردوغان،
إلا أن سوق السندات أكثر حكمة، وقد حمل منذ فترة رسائل مغايرة عما تروج له سوق الأسهم، مفادها أن تكاليف الاقتراض لن تتراجع، وأن المخاطر السياسية باقية، فرغم انتعاش الأسهم بما عرف إعلامياً بـ«طفرة ترامب»، ظلت عوائد السندات مرتفعة، كما أن موجة بيع السندات، رغم كونها ملاذاً آمناً تقليدياً، خلال انهيار الأسهم الأسبوع الماضي تكشف حقيقة صادمة: إما أن المستثمرين مضطرون لتسييل استثماراتهم الآمنة لتغطية خسائر حادة في محافظهم، وإما أن الثقة بمستقبل أمريكا نفسها تلاشت.
قد يتم تسجيل الأسبوع الماضي في التاريخ كبداية ملموسة وحقيقية لأفول ما يعرف بالاستثنائية الأمريكية، فقد صرح ستيفان بوجناه، الرئيس التنفيذي لبورصة «يورونكست»، لإذاعة فرانس إنتر قبل أيام قائلاً: «الخوف يسود الأجواء في كل مكان، فالولايات المتحدة باتت بلداً لا يمكن التعرف عليه، نحن نعيش في مرحلة انتقالية عميقة، هناك حالة من الحداد، لأن أمريكا التي عرفناها كقوة مهيمنة طالما تشابهت مع القيم والمؤسسات الأوروبية، أما اليوم فهي أقرب إلى نموذج الأسواق الناشئة».
وأنا أرى أن هذا التحول سيستمر في حقبة ترامب، بغض النظر عن مصير التعريفات الجمركية، فحتى لو تراجعت الصين وسايرت مزاج الرئيس الأمريكي (وهو ما أستبعده)، أو حتى لو انتهى المطاف بتعديلات محدودة على النظام التجاري العالمي، فإن الضرر قد وقع بالفعل، فقد انهارت الثقة تماماً، ويسود القلق في أوساط المستثمرين والشركات على حد سواء، ما سينعكس بلا شك على السلوك الاقتصادي.
وستظل نزوات ما يمكن وصفه بـ«رأسمالية كاليجولا» تلقي بظلالها على المشهد حتى انتخابات التجديد النصفي للكونغرس (وشخصياً أنا أخطط للاحتفاظ بسيولة نقدية واستثمارات في الذهب حتى ذلك الحين)، إلا أن تداعيات هذه المرحلة ستمتد لفترة أطول بكثير، خاصة مع التخفيضات الضريبية التي ستدخل حيز التنفيذ خلال الأشهر المقبلة، والتي ستخلق وضعاً غير مستدام إطلاقاً للديون الأمريكية، فهل بات من المحتمل أن تتحول الولايات المتحدة إلى بؤرة لأزمة ديون عالمية على غرار أزمات الأسواق الناشئة؟ حقيقة كنت سأستبعد هذا السيناريو في الماضي، أما اليوم فلم أعد أستبعده.